النـص : منذ اللحظة الأولى للاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، لم تُخفِ واشنطن نواياها ولا أقنعت العالم بخطابها التزييني عن "التحرير" و"الديمقراطية". فقد بدأت المشهد بتعيين حاكم مدني عسكري أعلن بوضوح أن العراق بلد محتل، تسري عليه أحكام الأمم المتحدة الخاصة بالدول الخاضعة للاحتلال. ومن تلك اللحظة، كُرّست حقيقة أن القرار العراقي لم يعد وطنيًّا خالصًا، بل بات يُدار من وراء الأبواب المغلقة في المنطقة الخضراء.ثم ما لبثت تلك المرحلة أن انقضت بعد الانسحاب الأمريكي المذل تحت ضربات المقاومة الإسلامية، ليبدأ فصل جديد من الوجود الأمريكي لا بالجنود هذه المرة، بل بالدبلوماسية الناعمة. فكانت السفارة الأمريكية في بغداد أكبر سفارة في العالم من حيث المساحة وعدد العاملين، أشبه بمدينة داخل مدينة، تضم آلاف الموظفين بين دبلوماسيين ومستشارين وخبراء أمنيين واستخباريين، ما جعلها رمزًا ماديًا للهيمنة الناعمة بعد أن غابت المدرعات.ولأن السفارة لم تكن مجرد بعثة سياسية، فقد كان من الطبيعي أن يُعيَّن على رأسها سفير مفوض فوق العادة، يحمل صلاحيات واسعة تتجاوز الأعراف الدبلوماسية. فالسفير في بغداد لم يكن مجرد ممثل لبلده، بل منسقًا عامًا لإدارة النفوذ الأمريكي في العراق، يوجّه ويتابع ويتدخل، ويُشرف على ملفات تتعلق بالاقتصاد والطاقة والأمن وحتى الإعلام. لقد كان — في الواقع الحاكم المدني بزيّ دبلوماسي.ومع ذلك، نُفاجأ اليوم بأن هذه السفارة العملاقة تُدار من قِبل مبعوث، في مشهدٍ يُثير التساؤل:هل هو انخفاض في مرتبة التمثيل الأمريكي؟ أم أن واشنطن اكتشفت أن النفوذ لا يحتاج بعد اليوم إلى لقب السفير المفوض، بل إلى مندوب يختبئ وراء الكلمات ويُدير اللعبة من الظل؟من الناحيةالبروتوكولية، يُعد التدرج في التمثيل الدبلوماسي مؤشراً على مقدار اهتمام الدولة المرسِلة بالدولة المضيفة. ووفق اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961، فإن المراتب الدبلوماسية تتوزع على ثلاث درجات أساسية: 1. السفراء والمفوضون فوق العادة، وهم أعلى المراتب ويمثلون دولهم لدى رؤساء الدول. 2. الوزراء المفوضون والمبعوثون، ويمثلون دولهم بدرجة أدنى. 3. القائمون بالأعمال، الذين يمثلون الدولة لدى وزير الخارجية لا رئيس الدولة. وبناءً على هذا التصنيف، فإن استبدال السفير المفوض بـ مبعوث يعني تخفيضًا رسميًا في مستوى التمثيل الدبلوماسي، وهو ما يعكس – في العُرف الدولي – إما برودًا في العلاقات، أو تحولًا في طبيعة الدور والمصلحة. ورغم وضوح المعايير في اتفاقية فيينا، فإن الواقع العراقي كشف عن تجاوز الولايات المتحدة لهذه الأعراف الدولية، عندما أبقت على النفوذ الفعلي والتحكم المطلق رغم تخفيض رتبة ممثلها، مما يجعل الشكل البروتوكولي مجرد غطاء على استمرار الهيمنة.وهكذا يبدو أن واشنطن، وقد غيّرت أدواتها، تريد أن تحكم بلا أن تظهر، وأن تبقى ممسكة بخيوط المشهد عبر المبعوثين والخبراء والمستشارين. إنها مرحلة جديدة من النفوذ المقنّع، تُدار فيها السياسة من وراء ستارٍ من اللباقة الدبلوماسية بدل السطوة العسكرية.لكن السؤال الأعمق يظل قائمًا:هل تغيّر وجه الاحتلال فعلاً، من خلال تغيير استراتيجي أم هو تغير تكتيكي تقتضيه المصلحة في ظل متغيرات دولية وإقليمية؟ هل أصبح العراق سيد قراره، أم أن السيادة تُمنح اليوم بقدر ما تسمح به مصالح الآخرين؟ ربما يكون المبعوث الصغير رمزًا لعصرٍ يتوارى فيه الاحتلال خلف الألقاب الصغيرة، تحت مفهوم السياسة الناعمة. ومع كل تبدل في الأسماءوالمناصب، تبقى الحقيقة جاثمة على صدرالعراقيين:أن العراق ما زال يبحث عن استقلاله التام بعيدًا عن الوصاية، وأن السفارة مهما تقلصت ألقابها لا تزال تختصر حجم الظل الأمريكي الممتد على القرار الوطني.
|