السبت 2025/10/25 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
السماء صافية
بغداد 17.95 مئويـة
نيوز بار
لاسلو كراسناهوركاي يحصد نوبل بجملته الطويلة ونزعته الإنسانية العميقة… وخيبة أدونيس التي لا تنتهي!!
لاسلو كراسناهوركاي يحصد نوبل بجملته الطويلة ونزعته الإنسانية العميقة… وخيبة أدونيس التي لا تنتهي!!
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

اشارة تحريضية/شوقي كريم حسن

 

لم يكن فوز الكاتب المجري لاسلو كراسناهوركاي بجائزة نوبل للآداب لعام 2025 مفاجئاً لمن يعرف هذا الكاتب المنعزل، الذي أمضى عمره وهو يكتب كما لو أن العالم سينتهي بعد كل جملة. قال ذات مرة: “الإنسان العادي هو وحده الحقيقي، وهو مقدس.” جملة واحدة كانت كفيلة بأن تختصر فلسفة هذا الكاتب الذي يكتب عن الإنسان المنهك، المسحوق، الغارق في العبث، لكنه لا يزال قادراً على الحب والحلم والتمسك بشيء من معنى. كراسناهوركاي لا يكتب عن البطولة، بل عن الهشاشة، لا يمدح القوة، بل يرثيها، ولذلك ربما وجدته الأكاديمية السويدية أكثر صدقاً من أولئك الذين يصعدون المنابر ليتحدثوا عن الإنسان وهم أول من تخلّى عنه.نوبل هذا العام لم تذهب إلى شاعر، ولا إلى كاتب سياسي، ولا إلى مثقف صاخب، بل إلى رجل يكتب الجملة كأنه يكتب الصلاة. من يقرأ “التانغو الشيطاني” أو “مقاومة الدمار” سيجد نفسه في متاهة من الجمل الطويلة التي لا تعرف النقطة، كأنها سيل من الوعي الإنساني المتدفق، لا يتوقف إلا ليلتقط أنفاسه ثم يغوص من جديد في ظلمة العالم. جمل كراسناهوركاي ليست استعراضاً لغوياً، بل بحث في المجهول، محاولة لإعادة ترتيب فوضى الوجود. ولهذا يحبه النقاد في الغرب، لأنه يعيد إليهم إيمانهم بأن الأدب ما زال قادراً على طرح الأسئلة الكبرى، لا على تكرار شعارات الصواب السياسي أو النضال اللغوي.في المقابل، لم يكن أدونيس بعيداً عن المشهد. فكل عام، منذ أكثر من عقدين، تتكرر الحكاية نفسها: “أدونيس مرشح لجائزة نوبل.” الصحف العربية تحتفل، البرامج الثقافية تتحدث عن “أديب العرب الكبير الذي ظلمته الأكاديمية السويدية”، وتغرق وسائل التواصل في موجة من التمجيد الممزوج بالمرارة. لكن الحقيقة البسيطة التي يرفض الكثيرون تقبّلها، أن الأكاديمية السويدية لا تعلن أسماء المرشحين أصلاً، وأن أي حديث عن “ترشيح رسمي” هو محض أكذوبة صنعها الإعلام العربي وساهم أدونيس نفسه في تغذيتها بصمته المتواطئ. لم يُذكر اسمه في أي قائمة موثقة، ولم تؤكد الأكاديمية يوماً أنه كان ضمن المرشحين النهائيين. ومع ذلك، استمرت الأسطورة لأننا نحب أن نعيشها. نحن نحتاج “أدونيس المرشح” أكثر مما نحتاج “أدونيس الشاعر”.أكذوبة الترشيح ليست مجرد خطأ صحفي، بل مرآة لعلاقتنا المتوترة بالاعتراف الغربي. كلما فاز كاتب من لغة أخرى، بدأنا نسأل: لماذا ليس نحن؟ لماذا لا يمنحوننا الجائزة؟ وننسى أن نوبل لم تُخلق لتكافئ اللغة العربية، ولا الإسلام، ولا الشرق، بل لتكافئ الكتابة التي تفتح نافذة على الإنسان. الأكاديمية منحت الجائزة لتوماس ترانسترومر لأنه رأى في الشعر عزاءً للروح، ولأولغا توكارتشوك لأنها أعادت تعريف الزمن والسرد، ولجون فوسه لأنه كتب عن الصمت كأنه يكتب عن الله. فهل كتب أدونيس عن الإنسان؟ أم كتب عن اللغة التي تعلو فوق الإنسان؟ إن شعره، بكل فخامته، لا يتعرّق، لا يتألم، لا ينزف، بل يطل من برج منيف يتأمل الخراب دون أن يتسخ بغباره.كراسناهوركاي، في المقابل، يقف وسط الطين. يكتب عن الناس الذين يعيشون في بيوت تتداعى، عن القرى التي يبتلعها المطر، عن الجنون الذي يسكن العزلة. حين نقرأه نشعر بأن العالم ينهار ببطء ونحن معه، وأن الجملة الطويلة التي لا تنتهي هي صورة دقيقة لحياتنا التي لا تعرف أين تبدأ وأين تنتهي. الأكاديمية السويدية لم تكافئ الأسلوب فحسب، بل الإنسان الكامن في تلك الفوضى. لقد اختارت كاتباً لا يدّعي البطولة، بل يمارسها في الصمت.لكننا في العالم العربي، ما زلنا نخلط بين المجد الشخصي والمجد الإنساني. نريد نوبل لأننا نشعر أننا نستحقها، لا لأننا كتبنا ما يليق بها. نحول الجائزة إلى امتحان للكرامة الثقافية، لا إلى احتفاء بالقيمة الأدبية. أدونيس، على مدار نصف قرن، كان رمزاً للحداثة الشعرية، لكنه ظل أسيراً لفكرة أن الشعر يجب أن ينقذ العالم عبر اللغة. بينما نوبل اليوم تمنحها لجنة تبحث عن من يحاول إنقاذ العالم عبر الإنسان. بين “اللغة هي المعنى” عند أدونيس و“الإنسان هو المعنى” عند كراسناهوركاي، انتصرت الأكاديمية للأخير، وهذا ليس ظلماً، بل منطق عصر جديد لم يعد مفتوناً بالشاعر النبي، بل بالكاتب الشاهد.إن خيبة أدونيس ليست فقط في عدم حصوله على الجائزة، بل في إصرارنا على تحويله إلى ضحية. ما من شيء أكثر مهانة للأدب من أن يتحول الكاتب إلى رمز سياسي للخذلان. الأدب لا يعرف المظلومية، يعرف فقط النص. ولو قرأ أعضاء اللجنة الشعر العربي بصدق، لوجدوا شعراء آخرين أكثر جرأة في لمس جرح الإنسان العربي من أدونيس، شعراء كتبوا بدمهم لا بنظريتهم. نوبل ليست ضد العرب، هي فقط ضد الادعاء.ولعل المفارقة الأجمل أن كراسناهوركاي، الذي لم يسع وراء الجوائز يوماً، لم يظهر على الشاشات، ولم يُجامل الأكاديميات، هو من فاز في النهاية. لأنه كان صادقاً مع جملته، ومع خوفه، ومع إيمانه بأن الأدب لا يغيّر العالم، لكنه يجعل العيش فيه محتملاً. أما نحن، فما زلنا نحلم بجائزة تجعلنا نشعر أننا موجودون، بدلاً من أن نكتب كي نوجد فعلاً.ربما لو ترك أدونيس أسطورته، وكتب عن الإنسان لا عن الرموز، لاقترب أكثر من نوبل التي تطارد الإنسان العادي في الأزمنة المعقدة. وربما لو كففنا نحن عن انتظار نوبل، لكنا أقرب إلى معناها. لأن الجائزة الحقيقية، كما أثبت كراسناهوركاي، ليست في الذهب السويدي، بل في الجملة التي تنقذ الإنسان من العدم.

 

المشـاهدات 25   تاريخ الإضافـة 25/10/2025   رقم المحتوى 67637
أضف تقييـم