الإثنين 2025/10/27 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 18.95 مئويـة
نيوز بار
فيلم يمتلك قوة صفاء في لغته البصرية باعتماده الصمت بدلاً من الحوار الصمت والكارما والطبيعة: عالم كيم كي – دوك في ((الربيع، الصيف، الخريف، الشتاء… والربيع))
فيلم يمتلك قوة صفاء في لغته البصرية باعتماده الصمت بدلاً من الحوار الصمت والكارما والطبيعة: عالم كيم كي – دوك في ((الربيع، الصيف، الخريف، الشتاء… والربيع))
فن
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

 

 

 

 

يعتبر فيلم "الربيع، الصيف، الخريف، الشتاء… والربيع" للمخرج كيم كي - دوك من أبرز نماذج "السينما التأملية"؛ فهو يختصر كيف تتحوّل الصورة إلى قصيدة سينمائية، ونال إعجاب النقاد الغربيين لما يجمعه من سكينة شرقية وصدق إنساني عميق.يُعد فيلم "ربيع، الصيف، الخريف، الشتاء… والربيع" للمخرج الكوري الجنوبي كيم كي – دوك (1960 – 2020) علامة خالدة في تاريخ السينما الروحية والشعرية الحديثة، عملٌ يتجاوز كثيرًا حدود السرد وأصبح تجربة تأملية في الوجود والكارما والرحمة.تدور قصة الفيلم في معبدٍ بوذي صغيرٍ يطفو فوق بحيرة محاطة بالجبال، حيث يعيش راهبٌ عجوز وتلميذه الشاب. تتعاقب الفصول الخمسة لترمز إلى دورة الحياة، البراءة في الربيع، الرغبة في الصيف، الندم في الخريف، التأمل في الشتاء، ثم البعث في الربيع الجديد.بهذا البناء الدائري يختصر كيم دورة الوعي الإنساني في فضاءٍ مغلقٍ يُطلّ على المطلق، حيث الطبيعة تكون كائنًا واعيًا يُعلّم الإنسان معنى التوازن.من مميزات هذا الفيلم أنه يمتلك قوة صفاء في لغته البصرية واعتماده الصمت بدلاً من الحوار، وهكذا تتحوّل الصورة إلى قصيدة سينمائية مفعمة بالتطهر والمعاناة والوصول إلى النقاء عبر الألم. نال العمل إعجاب النقاد الغربيين واعتُبر من أبرز نماذج “السينما التأملية”، لما يجمعه من سكينة شرقية وصدق إنساني عميق.المخرج كيم كي – دوك هو أحد أكثر الأصوات استقلالاً في السينما الآسيوية، عُرف بأفلامه التي تمزج القسوة بالرحمة، والعزلة بالتنوير، وظلّ وفيًّا لأسلوبه الزاهد البعيد عن هيمنة السوق والمهرجانات واشتراطات التمويل الغربي.في هذا الفيلم تحديدًا أبدع الممثل الكوري أوه يون – سو بدور الراهب الحكيم، والذي قدم أداءً صامتًا مفعمًا بالحضور والسكينة، جعل هذه الشخصية تتجاوز التمثيل لتصبح رمزًا للبوديستافا -الكائن الذي يؤجل خلاصه ليهدي الآخرين إلى النور.

 

بوذية بلا معابد ومسيحية بلا كنيسة: حوار الصمت والألم بين كيم كي - دوك وأندريه تاركوفسكي

 

يعتبر فيلم “الربيع، الصيف، الخريف، الشتاء… والربيع” (2003) للمخرج الكوري كيم كي – دوك وفيلم “ستالكر” (1979) للمخرج الروسي أندريه تاركوفسكي من بين أجمل الحوارات الروحية في تاريخ السينما العالمية. وبالرغم من أن المخرجين ينتميان إلى سياقين ثقافيين ودينيين مختلفين، فإن كليهما التقيا عند جوهر واحد وهو البحث عن الخلاص عبر الصورة. فكيم كي – دوك بوذيّ حرّ، خارج المؤسسة وسطوة النصوص الرهبانية، كان يرى أن الخلاص في الوعي الداخلي والكارما المتجددة، بينما تاركوفسكي “ملحد – مؤمن” على طريقته الخاصة، خرج من عباءة الكنيسة الأرثوذكسية لكنه احتفظ بإيمانه العميق بقداسة الألم الإنساني، وبالصليب كرمزٍ لتخلي الإله عن الإنسان في وحدته. كلاهما صوّر الغياب الإلهي لا كإنكار، بل كاختبار للوجود.في فيلم كيم يبدو المعبد الصغير المتواضع العائم وسط البحيرة بمثابة مرآة للنفس، والطبيعة هي المعلم الأسمى، حيث نشعر بأن الصمت يتحول إلى صلاة بصرية أنيقة. سنرى أن الراهب الحكيم لم يقدّم وعودًا بالخلاص، ولم يتل نصوصًا وأناشد مقدسة، لكنه لم يعلّم تلميذه كيف يواجه أفعاله في دورة الكارما؛ فالإله هنا ليس المسيطر الجبار شديد العقاب ولا حتى الرحيم، بل منظومة أخلاقية داخلية تحدد سعادتنا وشقاءنا.في المقابل، سندرك أن “المنطقة” في ستالكر هي ذلك الفضاء الغامض، أشبه بمعبدٍ خفيّ ممنوع الوصول إليه، يدخل إليه ثلاثة رجال طلبًا للأمل. “ستلكر” أو الدليل، مثل الراهب، يختار ألا يدخل الغرفة التي تحقق الأمنيات، لأنه بلغ وعي الرحمة ويخشى أن تتلوث روحه بالمكاسب والرغبات.يلتقي الفيلمان في الإيمان بالصورة كوسيلة للخلاص، والزمن كدائرة تتكرر فيها الخطيئة والمعرفة، لكنهما يختلفان جوهريًا؛ إذ إن كيم كي – دوك بحث عن النقاء عبر الصمت والطبيعة والكارما، بينما تاركوفسكي بحث عن الخلاص عبر المعاناة والإيمان بما لا يُرى.الأول كان يرى أن العالم يتطهّر من الداخل، والثاني أدرك أن الإنسان يُختبر في العراء بعد صمت الله وغيابه.إنه لقاء بين بوذية بلا معابد ومسيحية بلا كنيسة؛ كلاهما أعادا تعريف الروح في غياب المطلق، وجعلا من الفنّ طريقًا للعبور من الجسد والمكان والزمن إلى المعنى، سنلمس أن صمت كيم ليكتشف الضوء، وأن تاركوفسكي تألم واختار العزلة والمنفى ليغسل الذات؛ وكلاهما حاولا أن يخلقا من الألم بوابة نحو النور.

 

بين الضجيج والصمت: استقلالية الفنان الشرقي بين يوسف شاهين وكيم كي - دوك

 

وُلد كيم كي – دوك في الهامش الكوري، في قرية فقيرة بعيدة عن مراكز الثقافة والسلطة، ونشأ وسط قسوة الحياة اليومية، ما جعل رؤيته الفنية تتشكّل من الألم والتجربة وليس من التعليم أو الرفاه. خدم في الجيش ثم سافر إلى فرنسا، هناك عاش ثلاث سنوات رسامًا فقيرًا في شوارع باريس ومراسمها الصغيرة. هناك تعرّف إلى الفن الأوروبي، لكنه لم يقع في فخّ الانبهار، بل اكتشف هشاشة العالم الغربي واغترابه الروحي.وعندما عاد إلى كوريا الجنوبية، لم يحمل معه نزعة التبعية أو الرغبة في الاعتراف الغربي، بل أسّس سينما روحية، شعرية، متقشفة ومستقلة، تبحث عن الخلاص الداخلي دون أن يجتهد في البحث عن الجوائز أو التمويل، كأنه أدرك مبكرًا أن الانخراط في منظومة الإنتاج الغربي يعني الخضوع لشروطها الرقابية ولتمرير أيديولوجياتها الاستعمارية الناعمة، فاختار العزلة كفضاءٍ للحرية.في المقابل، كان يوسف شاهين نموذجًا آخر للفنان الشرقي في علاقته بالغرب. منذ دراسته في الولايات المتحدة ثم ارتباطه بالمؤسسات الفرنسية، اختار طريق التمويل والرعاية الغربية ليؤسس مشروعًا يزاوج بين المحلية وحلمه الوصول إلى العالمية، لكنه دفع ثمن ذلك من استقلاله الفني وعدم قدرته على نقد الاستعمار. فالحرية التي منحها له المنتج الأوروبي جاءت مشروطة بخطابٍ ثقافيٍّ مقبول مهرجانيًا، وبتصوير الشرق في إطار “الاختلاف المثير”.شاهين أحبّ الجدل والأضواء والصخب، قدّم نفسه كمشروع فكري تنويري عربي كبير، وسعى إلى أن يكون صوتًا عربيًا عالميًا، لكنه ظلّ يفاوض الغرب داخل ملعبه، في حين أن كيم كي – دوك بنى ملعبه الخاص في العزلة والصمت.تجلّت فلسفة كيم في رفض الشهرة، ونكران الذات، وتقديس البساطة. أفلامه، مثل “الربيع، الصيف، الخريف، الشتاء… والربيع”، تنبع من حسٍّ بوذي حرّ، لم يخضع للطقس الديني ولا للموضة الجمالية الغربية. بينما كان شاهين يؤمن بالسينما كمنبرٍ للحوار والصراع الأيديولوجي وتسويق ذاته، كان كيم يرى في السينما أنها أشبه بمعبد للتأمل والتطهر.إذن لم يكن الفرق بينهما في الموهبة بل في فلسفة الوجود والفن، ربما أراد شاهين أن يغيّر العالم بالصوت والصورة، وكيم كي – دوك أراد أن يطهّر الإنسان بالصمت والضوء. شاهين ابن المدينة الصاخبة والباحث عن المجد، وكيم ابن الجبل والبحيرة. الأول عاش ليُرى، والثاني عاش ليختفي.وبين هذا الضجيج وذلك الصمت، يتجلى السؤال الأبدي عن حرية الفنان الشرقي والسؤال المهم: هل تتحقق في المواجهة أم في العزلة؟ كيم اختار طريق البوذية بلا معابد ولا أناشيد وجوقة، وشاهين طريق الخطابة بلا صمت.

 

الحكيم البوديستافي في سينما كيم كي - دوك

 

في هذا الفيلم “الربيع، الصيف، الخريف، الشتاء… والربيع” قدّم كيم كي – دوك نموذجًا استثنائيًا للروحانية البوذية، والتي لم تكن عبر الطقوس أو النصوص أو الصلوات الجماعية الفخمة، بل عبر الحياة اليومية والطبيعة يخلق معبدًا مفتوحًا، وعبر شخصية الحكيم التي تجسّد روح البوديستافا في أجمل صورها الإنسانية وأكثرها تجردًا.الحكيم هنا لم يكن واعظًا ولا كاهنًا صاحب قداسة عظيمة، بل هو معلم صامت وأشبه بالإنسان البسيط العادي، نراه يعلّم بالمثال وبالكلمة الهادئة، وبالصبر لا بالعقاب. لم نره يغضب، أو يهدّد تلميذه بجحيم أو حرمان، ولا يعده بفردوس أو خلود، بل يظل يراقب العالم وهو يدرك أن الوعي لا يمكن أن يُزرع بالخوف وبيع الأوهام، بل بالتجربة والاختبار.هذه الروح البسيطة والعميقة في آنٍ واحد هي التي جعلت هذا الفيلم مغايرًا للكثير من الأعمال التي تُقدّم البوذية كديكور بصري بما تمتلكه من معابد فخمة أو كخطاب أخلاقي عبر نصوص فلسفية ذات نبرة غنائية. لكن المخرج السينمائي كيم كي – دوك في هذا الفيلم ينسف التديّن الشكلي والمؤسساتي من جذوره، ويقدّم بوذية حرة رقيقة وجميلة بلا معابد ولا تراتيل، بوذية ترى الإنسان ككائن ناقص بطبعه، يبحث عن النقاء وهو محاط بالشهوة والعنف والندم.الحكيم هنا يدرك أن الإنسان لا يُطهَّر من رغباته داخل المعابد والمؤسسات الدينية ذات القداسة، لكنه يتعلّم التوازن بين الرغبة وبين الوعي. لذلك حين مارس التلميذ الحب مع الفتاة المريضة، لم يعاقبه المعلم، بل حذّره فقط من أن يكون عبدًا للشهوة. هذا الموقف وحده كافٍ ليجعل من كيم مخرجًا متمرّدًا على المؤسسة البوذية، لأنه يرى أن الأخلاق ليست طاعة، لكنها وعي بالنتيجة.يعرض الفيلم بذكاء دورة الكارما عبر المكان ذاته. فمثلاً في البركة الصغيرة يبدأ الطفل رحلته بتعذيب المخلوقات الضعيفة (سمكة، ضفدع، أفعى)، وهنا تتجسد براءة الشر الأولى -تجربة الفضول التي تكشف جهل الإنسان بأثر أفعاله.وفي المكان نفسه يمارس الشاب الحب، تجربة الرغبة الأولى ثم الألم الأول، وأخيرًا، في النهاية، يعود المكان ذاته ليشهد طفلًا جديدًا يكرّر مشهد القسوة القديمة. بهذه الدائرة يذكّرنا كيم بأن الإنسان لا يتغير جوهريًا، بل يظل أسير طبيعته المتناقضة.كيم كي – دوك لا يُقدّس الإنسان ولا يُشيطنه، يراه كائنًا يتعلّم بالخطأ ويبحث عن النور داخل ظلمة هذا العالم. المتأمل لهذا الفيلم، الذي يصعب الإحاطة بكل ما فيه من تفاصيل، سيدرك براعة المخرج وحكمته في إبداعه بالتعامل مع فن الصمت، وكيف جعل من أدواته الفنية المتعددة نقدًا صامتًا للمؤسسات الدينية التي تزعم امتلاك الحقيقة، وللخطابات التي تدّعي أن الخلاص في الطقوس وتقديس رجال الدين.السكينة هنا لم تُمنح كثواب أو جائزة للطاعة، بل تُكتشف بالتدرّج؛ والإله لم يُخاطب بالتعظيم والتراتيل، بل بالصمت والتأمل. ولذلك يخيف أسلوب كيم وأمثاله كل مؤسسة دينية، لأنه يجرّدها من سلطتها، ويعيد الروحانية إلى مكانها الطبيعي، داخل الإنسان، بعيدًا عن المظاهر المصطنعة التي تُقام حوله أو تُسجنه فيها.لا نبالغ بالقول إن فيلم “الربيع، الصيف، الخريف، الشتاء… والربيع” يعتبر علامة فارقة في تاريخ السينما الروحية، كونه انتزع إعجاب النقاد الغربيين الذين رأوا فيه “فيلمًا يُشاهد كصلاة.” نال إشادات واسعة من روجر إيبرت والغارديان وعدة مجلات سينمائية، وعدّه معهد الفيلم البريطاني من أهم الأفلام التأملية في العالم.إذن لقد أثبت المخرج السينمائي العالمي كيم كي – دوك، وهو ابن الهامش الكوري، أنه لا يحتاج إلى إنتاج ضخم أو مؤسسات غربية ليصنع تحفة عالمية. بأسلوبه البسيط الزاهد وبكاميراه التي ظلت تصلي في الصمت إلى مماته، يمكن أن نعتبره كأحد أهم مبدعي الشرق الذين أعادوا تعريف الجمال والروح في السينما المعاصرة.

 

حميد عقبي

المشـاهدات 9   تاريخ الإضافـة 26/10/2025   رقم المحتوى 67717
أضف تقييـم