الأربعاء 2025/10/29 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 31.95 مئويـة
نيوز بار
(سيمفونيّة المدن المرئية) كتابة نسوية مفتوحة لنصوص مكانية
(سيمفونيّة المدن المرئية) كتابة نسوية مفتوحة لنصوص مكانية
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

د. سمير الخليل

وفقاً لسيميائية العنوان تحيلنا نصوص (سيمفونية المدن المرئية) للقاصّة والروائية (رغد السهيل) إزاء تجربة في نصوص تتجوهر وتتشكّل حول ماهيّة ومعطيات المكان، وتتوجّه للبحث عن التناغم الجمالي في البلدان والمدن التي اشتبكت معها عبر الإنتقاء والتوغّل في معالمها وسطوعها وتاريخها وطقوسها والرسوخ الإنساني والتاريخي والجمالي الذي تتأطر به.

تقترح الكاتبة مدناً وأمكنة متنوعّة ومتعددة، لكن المشترك بينها ينتمي إلى السحر والعبق والتفرّد، ولم يكن هاجس الاشتباك المكاني منطلقاً من خصائص ومحدّدات وفضاءات نوع كتابي وتعبيري محدّد، بقدر ما كان الهاجس ينطوي على نزعة تنتمي إلى الرؤية والتحليق المفتوح، فلم تكن تنتمي إلى أدب الرحلات وطبيعة تناوله الوصفي للأمكنة، من حيث الأبعاد الجغرافية والاثنوغرافية والسيوسيولوجية، ولم تكن بحثاً عن عادات وطقوس اجتماعية ودينية، ولم تكن أيضاً دراسة أو استعاضة في وصف المدن والبلدان والطبيعة الديموغرافية والتاريخية، والموقع وخصائص الأجواء الطبيعية منها والظواهر الإنسانية، إنها عوالم برؤية جمالية.

وبهذا الافتراق أو الاشتباك الفارق اتسمّت سرديّة الكتابات القصصيّة بروح التجريب والمغايرة والاشتغال خارج منظومة القص النمطي والابتعاد عن خصائص وقواعد الهوية الإجناسيّة الصارمة للقصة القصيرة والكتابة باتّجاه الفضاء التعبيري المفتوح، وعلى وفق نزعة التداخل التجريبي بين الكتابة الوصفيّة المفتوحة، وتوظيف السرد القصصي، فهي لم تصف الأمكنة بأبعادها الجغرافيّة والتاريخيّة، وطقوسها وأسرارها وسطوعها بل زاوجت بين هذا الوصف وبين السرد الحكائي، وكأن المدن هي في النهاية مدوّنة لحكايات مثيرة وأثيرة تمنحها بعدها الإنساني وترسم لها ملامح التفرّد والعبق المكاني.

ويتشابك العنوان مع دلالة وإحالة العتبات التي سبقت النصوص السرديّة إذ تتضمن طاقة إشارية تعبّر عن مركزية المعنى المكاني، وعن سحر العلاقة بين الذات والمكان، والمعنى الذي يترشّح عنها، ويشكّل هويّة المكان مقترنة بكينونة الإنسان كما في هذه المتعاليات النصيّة: "الإنسان ليس إلاّ امتداداً لروح المكان"... (لورنس داريل)، (المجموعة: 7)، "أنظر إلى العالم، إنّه أكثر روعة من أي حلم" (راي براديري)، (الكتاب: 7)، والعتبتان اللتان شكّلتا بنية استهلالية حملتا في الوقت نفسه دلالة وإشارة وإحالة إلى المكان بوصفه البعد البؤري لتكوين الكينونة الإنسانية بكل أبعادها، ويتسّق هذا المعنى مع مقولة شكسبير: "ما المكان إلاّ الناس"، وفي الموروث العربي: "المكان بالمكين"، فالمكان مفهوم فلسفي ووجودي على وفق هذه الاحالات، ولم يفتقر معناه على البعد الجغرافي والحيّز الفيزيائي، فهو فضاء وجودي وسايكولوجي ووجداني وإحالي وهويّاتي، وهو الذي يؤسس أو يقترح وجود القرين الآخر، أعني الزمان، فهو كمفهوم ووجود وفلسفة أسبق من مفهوم المكان حسب الرؤية الفلسفية، وإن كان الفصل بينهما يُعدّ من المستحيلات، وعلى وفق هذا مزج (باختين) بين الطاقتين ليقترح مصطلحاً أو مفهوماً هو (الكرونوتوب) أي الاقتران الزمكاني، وتتخّذ الكاتبة من مفهوم وفلسفة المكان طاقة للانفتاح على النسق الاحتفالي والإشهاري انطلاقاً من أن المكان يضفي ببهائه الأنطولوجي والكلّي على سائر أنساق الحياة ويصبح للمكان سحره وهواجسه ورسوخه ورائحته وعبقه المتفرّد.

ولكي يتعمّق المسار التجريبي والتعبيري لهذا النمط الذي تقترحه النصوص، فإنّها تداخلت مع وسيط ومنتج تعبيري آخر هو الموسيقى، فكان الإطار، والتبئير السردي والوصفي يتعاشقان ويتعالقان مع البنية الموسيقية والإيقاعية، وكأن هذه النصوص تومئ، وتحيل إلى الفكرة الجمالية التي تكشف عن أن الحياة والإنسان والمكان ما هي إلاّ إيقاع بين السكون والحركة، والضوء والبهجة، والمعنى والصورة، والحقيقة والإيحاء، والواقع والخيال، والإنسان والحكاية، والوصف والتعبير والجمال.

وبذلك زاوجت النصوص بين المعنى التجسيدي للأمكنة والمعنى التجريدي للموسيقى، والجمع بين المجرّد والمجسّد هو نزعة باتجاه الجمع بين التضاد والتناقض لخلق (كونتراست) تعبيري مثلما تخلق السمفونيّة عناصرها الميلودية لخلق تجانس جمالي، وجعل (الصولو) هو سوناتا التعبير الكلي.

وقد عبّر غلاف الكتاب بوصفه العتبة الإشهاريّة الأولى عن صورة للمدينة بوصفها إيقونة التحضّر الإنساني، ورمز الرسوخ الوجودي الذي يحمل ويستوعب دراما الحياة ودراما الإنسان ودراما الأمكنة، وتحوّلت فصول الكتاب ونصوصه إلى مقطوعات وحركات سيمفونية، وكأنّ الوصف المكاني يتحوّل إلى عزف منفرد لتشكيل رقصة الوجود المكاني المقترن بالوجود الإنساني، وتحوّلت المدن إلى مقطوعات تعبيريّة ووجوديّة تشعر معها برقصة الجمال وبها العواطف ورسوخ المعنى الإنساني.

واتّخذت الفصول من العناوين دلالات مكانية وإحاليّة وإشاريّة إلى المدن الصاخبة بالجمال والسحر فكان النص الأوَّل يحمل عنوان (الدانوب الأخضر) وهي إشارة إلى النهر الذي يتأطّر بروح الأسطورة المكانية وسحر الأجواء ويمثل وسط القارة الأوربية وإيقونتها: "طريق يعانق طريقاً.. زقاق يعانق زقاقاً، كل ما في تلك المدينة يلمّ بعضه إليه بوثاق متين مهما تباعدت أطرافه أو تباينت مكوناته أو تناقضت صفاته يظل متناغماً في وحدته حتّى أن أغصان الشجر تميل لتعانق البشر فينبعث من الجذور.. دو، ري، مي، صول... وهذا ليس عبثاً". (الكتاب: 11)، ونلحظ المزاوجة بين الوصف التعبيري وكينونة وجمال المكان الذي يستحيل إلى إيقاع سيمفوني، وتتحوّل المعالم الجميلة إلى سلّم لأنغام موسيقية وإيقاعية تثير المعنى الجمالي وتجعله ينتج الصوت مقترناً بالصورة، وتلجأ الكاتبة إلى الانزياح الدلالي حين تتحوّل من الوصف التعبيري والموسيقي إلى السرد القصصي لتنفتح على قصّة الحسناء (بشت) التي تعشق السهر والليل والمرح، وجيدها الممشوق وجمالها المثير، وعشق السيد (بودا) لهذا الكائن الأنثوي الفاتن: "وكان السيد (بودا) يراقبها كل ليلة من ضفة النهر الغربية، ويؤثر الاستمتاع بحرم الجمال من دون لمسه، فالقضية لديه ليست تملّكاً، إنما لقاء أرواح متألقة على ضفاف أمواج الجمال في الدانوب التي تنساب بكلّ سكينة ودعة". (الكتاب: 12).

وتتعالق روح السيد (بودا) مع روح وفتنة (بشت) لتكوين آصرة وتواشج روحي على وفق ملامح عشق (أفلاطوني) بيورتاني، يقول الراوي: "وهو السيد المحترم المثقّف هادئ الطباع خافت الصوت الملتزم بثوابت دينه المسيحي، إذ لم يترك كنيسة إلاّ وصلى وترك فيها أثراً فنيّاً أو إيقونة سالت في مجرى تاريخ تلك المدينة الواقعة شرق العالم الأوربي". (الكتاب: 12)، وينتج عن هذا التعالق الروحي والتطهري والاشتباك الجمالي، صورة لتكوين المكان ورمزه المدينة: "التقى الحبيبان المتباينان في الطباع، فكان الجسر الأوَّل بينهما، وبدآ يُعدّان للإحتفال لتأسيس عائلة (بودابست) على انغام انبعثت من جذور الأشجار... دو، ري، مي، فا، صول....". (الكتاب: 14)، وعلى وفق هذه المعطيات تتشكّل المدينة والنهر والجمال في سيمفونية واحدة مجسّدة بمدينة (بودابست) عاصمة المجر وواحدة من إيقونات السحر المكاني، ويستكمل النص المزاوجة بين سحر المكان وسحر الحب إلى سحر تقديس الطبيعة وتتحوّل القصّة إلى الناس الذين يتظاهرون ويعتصمون احتجاجاً على نيّة البلدية لقطع الأشجار الباسقة، حتى تحوّلت المظاهرة إلى تمرّد ورفض وعشق لجمال الأمكنة التي تعبّر عن الجمال الحقيقي وعن حقيقة وجود الإنسان في أسمى صور وجوده، وحكاية رفض اقتلاع الأشجار التي تتخذ معنى رمزياً واحتجاجياً.

وعبر هذا التداخل التعبيري زاوجت الكاتبة بين التوصيف والتوظيف الحكائي لنسج فكرة ودلالة المكان المقترن بالإنسان والجمال وسحر الحكاية وصولاً إلى أسطرة السرد المزدوج، سرد المدن وسرد الجمال، وفي ظل الرقص وأنغام السيمفونية التي تعمد النصوص على وضع التعريف السيمفوني كعتبة دلالية وكأنّ الحياة والمكان والواقع والحياة هي الحركة التي تؤسس لإيقاع المعنى.

ويواجهنا نص (لوليتا في امستردام) الذي نلحظ فيه فضاءً جمالياً لمكان يعبق بالسحر وبرائحة أزهار التوليب، وفي أعماق مدينة آسرة هي (امستردام) إيقونة (هولندا) تجسّد الكاتبة رحلة سياحية إلى هذا البلد الذي يختزل الجمال والأزهار والمطر والبهجة الآسرة بلد الطيور والجسور والدراجات للابتعاد عن تلوّث وصخب السيارات، وتقترن (لوليتا) بجمالها وسحرها وشبابها الصاخب مع المدينة، وتصف الكاتبة (رغد السهيل) الجمال الهولندي وامستردام الساحرة: "امستردام تغمرك بالمياه وتحميك من البلل وتهدي إليك بضع كركرات طفولية مجانية... التقطت أنفاسي في أحد المقاهي مع الفريق السياحي، وطلبت كأس شاي، أشعل احد السواح سيجارته فأقبلت نادلة المقهى... سيدي التدخين ممنوع؟!

  • غريب ألسنا في الهواء الطلق؟!
  • من يرد التدخين عليه أن يقف قرب تلك الشجرة، وأشارت بإصبعها إلى شجرة ضخمة عتيقة في الزاوية!!
  • ما هذا أهي عقوبة للمدخّنين؟!
  • عذراً سيدي إنّها تعليمات صاحب المقهى فهو يخشى التلوّث البيئي، تقول النادلة الرشيقة ذلك مبتسمة وتخطو بعيداً". (الكتاب: 34).

ثم يجيئ نص مكاني آخر موسوم (زهرة البلقان) إذ يقودنا إلى دول البلقان وإلى (صوفيا) عاصمة بلغاريا: "ما زلت أتذكر ذلك الحوار حين تركت رفيقتي الدائمة آلة الكمان، وانطلقت في رحلة لبلاد بعيدة بغية الاستمتاع باكتشاف المجهول لعلّي أعود بمعزوفة جديدة أعزفها في بلادي، وكانت المفاجأة عند وصولي إلى (صوفيا) عاصمة بلغاريا التي تحيطها الجبال من كل الاتجاهات وإذا بيَّ أشمّ رائحة خشب قوس الكمان وقد اخذت تحاصرني أينما تنقلت، فكلما خطوت في المدينة شعرت بتلك الرائحة المألوفة لدي، بل شعرت بأوتار الكمان تعزف في كل موضع دون أن أسمع صوتها، لكنها كانت تعزف أنا واثقة من هذا، وكأن هناك كماناً مخفيّاً في الشوارع أو تحت البلاط وكأنّ كل حجر وكل شجرة يحتفظان بصدى كمان". (الكتاب: 37- 38). ونكتشف الاقتران بين جمال المدن والهاجس الموسيقي، وكأن المكان نغمة وعزف وإيقاع على وفق هذا تم توظيف الموسيقى داخل السرد، وتمّ توظيف الوصف مع الحكايات، فالمكان عبر هذا المعنى حكايات وموسيقى وصور تلتصق بالذاكرة، ويصبح لكلّ مدينة ذاكرة ووجود وهوية ومعنى وليس من السهل اكتشاف المدن إلاّ بالغرق في تفاصيلها.

وتتوالى فصول (المجموعة) لاكتشاف الأمكنة وسحرها وعبقها وأسرارها وهمومها ويومياتها على وفق اشتغال تعبيري مفتوح وخارج التجنيس التقليدي المتداول، وفي فصل موسوم (اسطنبول والدر المنثور) نجد التوغل في أجمل مدن العالم لاسيما اسطنبول حيث يلتقي سحر الشرق مع جمال الغرب، وينطوي الفصل على إحاطة بالجمال المكاني والجغرافي والحفر في التاريخ والوقائع، وصف دقيق للمدن والأزقة والشوارع والمقاهي والساحات وتشعر بأنك إزاء مدينة كوزموبوليتية أو احتفالية: "اسطنبول مدينة يشقها سكين شديد الحافات تتوزع بين آسيا وأوربا، وكلتاهما مزينة بجواهر عتيقة ومرّصعة بأحجار ثمينة بريقها مدهش، مدهشة تلك المظاهرة الصامتة، لجمع من الأقدام، أقوام تدبّ على الأرض والمسافات بينها متسقة كخطوات العسكر، كالعسكر ساروا وسط شارع الاستقلال يرفعون البالونات واللاّفتات ويصفقون بإيقاع ثابت تتقدّمهم حسناء ذات رداء أصفر". (الكتاب: 54).

ولم يقتصر الوصف المكاني على جمال الجغرافيا وسحر الزوايا بل يتعدّى لالتقاط التفاصيل اليومية لحركة المدينة الآسرة، التي تشبه الحركات الموسيقية لتكوين سيمفونية المدينة التي تنام بين السواحل والموانئ والبنايات والمقاهي والمساجد والقلاع التي تنبئ عن التاريخ والحياة وعبق الماضي والحاضر، وجمال الشرق والغرب، وهما يلتقيان في نقطة سامقة وآسرة.

وفي فصل جميل وعميق موسوم (شمس بغداد..) نقرأ: "تمطر والشمس مشرقة.. في بغداد، الشمس مشرقة والسماء تقطر قطرة تلو قطرة، فطبع شمس بغداد لا يستسلم للغيوم والشاب الأسمر ذو الوجه النحيل يندسّ بخفة في أحد محال سوق الصفافير العتيق في قلب المدينة حيث تهوى المطارق فوق القطع النحاسيّة فتختلط طقطقاتها بتكتكة المطر... تك تك تك... وطق طق طق... تك تك يدفع إليه صاحب المحل مقعداً محاكاً من سعف النخيل يقول له مبتسماً:

  • تفضل أخي ارتح حتى يخف المطر ويمدّ إليه كأس الشاي يتصاعد منه البخار ورائحة الهيل، ونثر من عبق الهيل وسط رنين المطارق في سوق الصفافير...". (الكتاب: 78).

بهذا الاستهلال السردي والقصصي تتوغل الكاتبة (رغد) في التوّغل والاشتباك مع مدينة تبدو من المقدمة مدينة اشكالية تختلط في سمائها حرارة الشمس مع قطرات المطر!! وهذا التناقض في الطبيعة يجعل منها مدينة حافلة بالغرائب والدهشة واحتساء الشاي وسط تموز وتحت مطارق لا تنقطع، واختيار دراما سوق الصفافير له دلالاته المكانية والتاريخية، والكشف عن طبيعة المدينة ومزاجها الصعب، وعلى وفق هذا الاشتغال التعبيري المفتوح تتناول الكاتبة المبدعة سائر الأمكنة والمدن والبلدان التي انتقتها واختارت التوغل والاشتباك معها، برؤية جمالية وهي تؤسس لنص المكان، وبتأطير روحه، محلّقة تبحث عن المختلف والمثير وجدل المكان والإنسان والموسيقى.

المشـاهدات 17   تاريخ الإضافـة 28/10/2025   رقم المحتوى 67769
أضف تقييـم