بين الجسد والغياب
الحرب في نص (ساق تحدّق) للدكتور جمال العتابي![]() |
| بين الجسد والغياب الحرب في نص (ساق تحدّق) للدكتور جمال العتابي |
|
فنارات |
أضيف بواسـطة addustor |
الكاتب |
| النـص : أمجد نجم الزيدي لا تأتي الحرب في نص (ساق تحدّق) للدكتور جمال العتابي كخلفية لأحداث متلاحقة، وإنما كقدر يتسرب إلى الجسد والوعي، كقوة جارفة تهز الكائن البشري في أعماقه قبل أن تحطم ملامح العالم الخارجي، فمنذ اللحظة الأولى، يُلقى بالقارئ مباشرة وسط أجواء تمتلئ بالدخان وصرخات الجرحى، حيث يتقاطع الرفض/ الوعي مع السلطة/ مشعلي الحروب، حين تتآكل الحدود بين الواجب العسكري الألزامي والصرخة الإنسانية التي لا تجد طريقها إلى النجاة. ليست الشخصية الرئيسية (الطبيب طالب) بطلاً بالمعنى التقليدي للكلمة، بل هي وعي يقف على الحافة، بين قسمه الطبي الذي يربطه بالحياة، وبين مشاهد الموت التي تملأ الأفق بلا نهاية، فكل عملية بتر يجريها تتحول إلى سؤال، وكأن كل عضو يقطع يأخذ معه جزءاً من الروح والذاكرة (هذه ليست مجرّد ساق. إنها طريق، ذاكرة، خطوة أولى نحو بيت، أو نحو قبر) حيث لا نكون، وفي اللحظة التي تحدق فيها الساق المبتورة في وجه الطبيب، أمام تفصيل غرائبي عابر، بل أمام حقيقة ترى أن الجسد، وتلك الساق، ليس مادة صماء، بل تاريخ كامل من الخطوات والبيوت والأحلام، وأن ما يُفقد على الطاولة البيضاء لا يقل فداحة عما يسقط في ساحات القتال. يبنى النص بلغة مشبعة بالصور الحسية، لغة تجعل القارئ يشم رائحة اللحم المحترق ويسمع صوت العظم وهو يُقص، ويرى العيون المفتوحة للأطراف المبتورة وهي تلاحق الطبيب في يقظته وكوابيسه، ليست هذه الحسية تزييناً، بل هي وسيلة للنفاذ إلى التجربة من داخلها، كما لو أن النص يريد أن يضع القارئ في صميم ما يعيشه أبطاله، حيث لا فاصل بين الدم والحبر، بين غرفة العمليات وليل الجندي الذي يصرخ في داخله دون أن يسمعه أحد. تأخذ القصة شكل شظايا متفرقة، عمليات جراحية، مذكرات يكتبها الطبيب، أوراق مطوية في جيوب الجنود، كوابيس ليلية، أصوات تختلط بالظلام، وصية تُخط على جدار غرفة الأطباء، ولكن هذا التشظي لا يُعد خللاً، وإنما جزء من معنى النص نفسه، لأن الحرب لا تنتج حكايات متماسكة، بل تشظي الزمن إلى لحظات منفصلة، وهكذا تأتي القصة كأنها وعي، كذات مذهولة تلتقط ما يمكن التقاطه من معنى وسط الخراب. ليست الساق في هذه القصة مجرد تفصيل جسدي، بل رمز للذاكرة (رجلي كانت أول مَن يدخل البيت. كنت أطأ بها تراب أهلي . تعرف الطريق… أكثر مما أعرفه)، فحين تُبتر، لا يُقطع عضو فقط، بل يُقطع تاريخ يرتبط بحياة الإنسان وصلته بها، وكأنه يطال شبكة كاملة من المعاني التي تكون وجود الإنسان، لهذا يهتز الطبيب كل مرة، لأنه لا يرى في العملية فعلاً جراحياً محايداً، بل قطيعة وجودية بين الكائن وجسده، بين حياته وما تبقى منها بعد فقدان جزء أساسي من كيانه. لكن النص لا يتوقف عند صدمة البتر وحدها، بل يتعقب ارتداداتها في وعي الطبيب، في مذكراته وكوابيسه وسيجارته المشتعلة في الممرات المعتمة، في الأصوات التي تخرج من الأطراف المبتورة، والورقة التي تقول "روحي لم تُبتر"، ووصية الطبيب التي تدعو إلى سؤال الجريح عما بقي فيه لا عما فُقد منه، هذه كلها تجعل القصة تتحول من حكاية حرب إلى تأمل في معنى الإنسان حين يُنتزع من جسده. يبدو الطبيب ممزقاً بين وعيه المهني وارتباكه الداخلي، ففي كل مرة يخلع قفازيه ليكتب في دفتره أو ليطفئ سيجارته، يبدو كمن يحاول عبثاً أن يضع حداً لما يتسرب إليه من صور الدماء والأطراف المبتورة والعيون المفتوحة على الطاولات المعدنية الباردة، فعبارة (قلبي يُبتر مع كل عضو يُقطع) ليست جملة عابرة، بل صرخة وعي يكشف فيها أن الإنسان لا يمكن أن ينجو من الخراب، حتى لو وقف في صف الحياة. عندما يقول الجندي ساخراً (خذوا الباقي... يمكن يصيروا شهداء قبلي) ليست سخرية مرة فقط، وإنما محاولة لمقاومة العبث، ولمواجهة ما لا يمكن احتماله، بلغة تحتفظ بآخر ما تبقى من إنسانية مهددة بالانطفاء، لكن الطبيب هنا لا يضحك، لأنه يعرف أن ما يُفقد ليس مجرد أعضاء، بل أجزاء من الذات، وأن النجاة التي يقدمها في مواجهة الحرب تأتي ناقصة، محملة بثمن لا يمكن استرداده. تخلق البنية التي اعتمدها العتابي، بانتقالها بين المونولوجات الداخلية والمشاهد الحسية والوثائق الصغيرة، نصاً يبدو وكأنه يخرج من قلب التجربة، لا من خارجها، فلا مسافة آمنة هنا بين الراوي والحدث، بل انغمار كامل، يجعل القارئ يعيش حالات التمزق والقلق والكوابيس، ولهذا تظل القصة تدور في ذهن القارئ، لأنها لا تقدم خلاصاً ولا عزاءً، بل تكشف هشاشة العالم والإنسان في مواجهة حرب غاشمة تأكل كل شيء ولا تشبع. لكن القصة تتركنا أمام أسئلة لا جواب لها، فماذا يبقى من الإنسان حين يُفقد جسده؟ هل يمكن للروح أن تظل متماسكة رغم التمزق المادي؟ هل تكفي الذاكرة أو الحلم أو اللغة لتعويض ما يسقط في الحرب؟ إذ تظل الأطراف المبتورة في الصناديق المعدنية، والطبيب يواصل تدوين ملاحظاته، والحرب تستمر، والجنود الذين نجوا يحملون في أجسادهم علامات الفقد التي لا تزول، ومع ذلك، ووسط هذا الخراب، تظل هناك أصوات تصرخ (روحي لم تُبتر)، وكأن الإنسان، رغم كل شيء، يبحث عن بقايا معنى لا تقوى الحرب على تمزيقه. |
| المشـاهدات 16 تاريخ الإضافـة 28/10/2025 رقم المحتوى 67770 |
أخبار مشـابهة![]() |
الإماراتية ريم البريكي تفوز بمقعد في المكتب التنفيذي لاتحاد صحفيي آسيا والمحيط الهادي |
![]() |
ديالى تحتفي بصدور اول موسوعة لتراثها الثقافي
|
![]() |
أسئلة كونية ووجودية وعلمية في... السائر |
![]() |
(سيمفونيّة المدن المرئية) كتابة نسوية مفتوحة
لنصوص مكانية |
![]() |
كيف يتحقق حلم الموظف في الحصول على راتب تقاعدي يعادل ما كان يتقاضاه من راتب ومخصصات ؟! |
توقيـت بغداد









