السبت 2025/11/1 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 11.95 مئويـة
نيوز بار
قراءة استراتيجية في فشل الرهان على واشنطن
قراءة استراتيجية في فشل الرهان على واشنطن
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب كندي الزهيري
النـص :

 

 

 

منذ نهاية الحرب الباردة وحتى اليوم، لم تتغير جوهر السياسة الأمريكية تجاه العالم الثالث كما يصفونه ، بل تغيّر فقط شكل أدواتها. إن الحديث المتكرر عن “المفاوضات” و”بناء جسور الثقة” و”التعاون المشترك” مع الولايات المتحدة ليس سوى إعادة إنتاجٍ لوهمٍ قديم، صيغَ بأسماء جديدة. فواشنطن، في عمقها الإستراتيجي ، لا ترى في الحلفاء شركاء، بل أدواتٍ متغيرة، ولا ترى في خصومها خصومًا يمكن احترامهم ، بل أهدافًا يجب كسرها أو احتواؤها.الرهان على أمريكا هو في جوهره رهان على عدوٍ لا يؤمن إلا بمنطق القوة والمصلحة. ومنذ تأسيسها، قامت العقيدة السياسية الأمريكية على مبدأٍ واحد: “من ليس معنا فهو ضدنا”.هذه القاعدة تختزل العقل السياسي الأمريكي: لا مكان فيها للندية، ولا للسيادة، ولا حتى للحياد. هي رؤية تقوم على السيطرة عبر ثلاثة محاور: الهيمنة الإقتصادية ، والاحتواء الأمني، والتطويع الثقافي. كل “عملية سلام” أو “طاولة تفاوض” تُفتح مع واشنطن تحمل في داخلها مشروع إخضاعٍ مؤجل. فالتاريخ المعاصر يقدم أمثلة لا تُحصى:اتفاقيات السلام في الشرق الأوسط (الشرق الإسلامي الكبير) ، التي انتهت بمزيد من التبعية لا السيادة. “التحالفات” التي أنشأتها واشنطن بذريعة محاربة الإرهاب، وانتهت بسيطرة استخباراتية وإقتصادية. برامج “الإصلاح الإقتصادي” التي دمرت بنى الإنتاج الوطنية، وربطت الاقتصادات المحلية بالدولار والبنوك الغربية.في كل مرةٍ تفتح فيها واشنطن ملف “الشراكة”، تُغلق في الوقت نفسه ملفات السيادة. وفي كل مرةٍ تتحدث فيها عن “دعم الديمقراطية”، تزرع على الأرض أنظمةً تابعة، وفي كل مرةٍ ترفع فيها شعار “الحرية”، يكون هدفها الحقيقي ضبط مسارات المجتمعات باتجاهٍ يخدم مصالحها. إن مواجهة المشروع الأمريكي لا تبدأ من السلاح، بل من الإدراك.الإدراك بأن القوة لا تُستورد من الخارج،وأن أي منظومة سياسية تُراهن على واشنطن، إنما تزرع بذور سقوطها بأيديها. التحالف مع أمريكا لا يمنح الدول قوة، بل يسلبها قدرتها على أن تكون مستقلة في قرارها. فالتاريخ الحديث يبرهن أن من يتحالف معها يخرج من التجربة أضعف مما دخلها. الولايات المتحدة لا تملك أصدقاءً دائمين، بل مصالحَ دائمة، وحين تنتهي المصلحة، يُستبدل الحليف كما يُستبدل أي أداةٍ انتهت صلاحيتها.إن الشعوب التي راهنت على الوعود الأمريكية انتهت إلى الخراب. من العراق إلى ليبيا، ومن أفغانستان إلى أوكرانيا، في كل تجربة، كانت واشنطن هي المستفيد الوحيد، تُشعل الحرب، ثم تعرض إعادة الإعمار مقابل السيطرة، تُنتج الأزمة، ثم تقدم الحل بثمن السيادة الوطنية. إن القوة السياسية الحقيقية لأي دولة تبدأ من الداخل:من ثقة الشعب بنفسه، ومن مشروعٍ وطنيٍّ متماسك، ومن استقلال القرار الإقتصادي والسيادي. كلما ازداد إعتماد الدول على الخارج، ازدادت هشاشتها. وحين يتحول “الضمان الأمريكي” إلى ركيزةٍ للأمن الوطني، تتحول الدولة إلى كيانٍ تابع، لا يملك من قراره شيئًا.بناء الداخل لا يعني الانغلاق، بل يعني امتلاك الوعي الإستراتيجي الكافي لفهم أن التحالف لا يكون مع قوى الهيمنة، بل مع قوى التوازن.فالتحالف مع من يسعى إلى إخضاعك ليس سياسة، بل انتحارٌ مؤجل. إن الحديث عن “شراكة متكافئة” مع واشنطن هو خرافة سياسية… لا يمكن لدولةٍ تبني وجودها على السيطرة أن تقبل بشريكٍ حرٍّ إلى جوارها.الولايات المتحدة لم تدخل أي حوارٍ دولي إلا بعد أن ضمنت ميزان القوة لصالحها. تفاوض فقط حين تعرف أن خصمها ضعيف، وتبتسم فقط حين تكون قبضتها على عنقه قوية.و الحديث عن “طمأنة الحلفاء” و”بناء الثقة” و”التعاون الإقليمي” هو لغة دبلوماسية تُستخدم لتمرير مشاريع الهيمنة، لأن واشنطن لا تؤمن بالمشاركة في القرار، بل بإدارة القرار عن بُعد. حتى الدول التي ظنت نفسها “شريكة” لها، كالسعودية أو تركيا أو دول الإتحاد الأوروبي،اكتشفت لاحقًا أن التحالف مع أمريكا يعني التبعية المقنّعة لا الإستقلال ، والمصرية أنهم فقدوا القرار . إن الرهان على واشنطن هو رهان على الوهم، والوهم، مهما تزيّن بشعارات الديمقراطية والحرية، يبقى وهماً قاتلاً. السلام الحقيقي لا يُبنى مع القوة التي تعتاش على الحروب، ولا يمكن للشيطان أن يوقّع معك عهد سلامٍ إلا إذا ضمن أنك ستُسلم نفسك له. إن إدراك الشعوب لهذه الحقيقة هو الخطوة الأولى نحو التحرر الحقيقي.فحين تنصت الحكومات إلى وعي شعوبها، تُبنى الأوطان، وحين تنصت إلى وعود أمريكا، تُكتب نهايتها بأيديها. القوة لا تأتي من واشنطن،بل من الداخل، من الإرادة، من الوعي، ومن الإيمان بأن الإستقلال لا يُمنح، بل يُنتزع.

 

المشـاهدات 42   تاريخ الإضافـة 01/11/2025   رقم المحتوى 67833
أضف تقييـم