الناقد ....
بين ثقافة التراث ورؤى الحداثة![]() |
| الناقد .... بين ثقافة التراث ورؤى الحداثة |
|
فنارات |
أضيف بواسـطة addustor |
الكاتب |
| النـص :
محمد علي محيي الدين يُقال إن الناقد مرآة ثقافته، وإن بصيرته لا تنفذ إلى عمق النص إلا بقدر ما يتسع وعيه بالمعرفة الإنسانية. فالثقافة ليست زينة يتجمل بها الناقد، بل هي عُدّته وسلاحه في ميدان التأمل والتحليل، إذ بها تتشكل ذائقته، ويتهذب حكمه، وتتفتح أمامه مسالك القراءة المتعددة. في البدايات الأولى من تاريخ النقد العربي، وبخاصة في صدر الإسلام والعهد الأموي، كان النقد ضربًا من الانطباع الفني البريء من المنهج، وأحكامًا تُرسل إرسالًا دون تعليل أو تحليل. فالناقد يومذاك لا يتجاوز في نقده ما يختلج في نفسه من إعجاب أو نفور، من غير أن يُعمل فكره في لغة النص أو معناه أو بنائه. وكان الدافع إلى ذلك أن أدوات العلم لم تتبلور بعد، وأن علوم اللغة لم تكن قد وُضعت في أطر منهجية تساعد الناقد على التعمق والتفكيك، فكان النقد في مجمله ذوقًا فطريًا يعتمد على سلامة الحسّ وصدق الإحساس الجمالي. ومع نضج علوم اللغة في العصر العباسي، واشتداد عود النحو والبلاغة والعَروض، بدأ النقد العربي يتخذ له أصولًا ومناهج. فغدا الناقد يستنجد بما حصّله من معارف لغوية وبلاغية، يستضيء بها لفهم النص وتحليله. فصار يُوازن بين لفظ وآخر، ويُفاضل بين بيت وبيت، ويبحث عن علل الجمال في دقة العبارة أو جزالتها، وفي انسجام الوزن مع المعنى، واتساق البناء مع الغرض. ثم أخذ النقد يتجاوز حدود اللفظ والمعنى إلى فضاءات أوسع؛ فراح يلتفت إلى ما وراء النص، إلى الفكر الكامن فيه، والموقف الفلسفي الذي يحمله، والرؤية الكلامية أو المذهبية التي تومئ من خلاله. ومن هنا وُلد النقد الثقافي المبكر في تراثنا، حين أخذ النقاد يربطون بين النص ومصادره الفكرية ومدارسه الفلسفية، مستنيرين بما تُرجم من علوم اليونان والفرس والهند، فامتدت الثقافة النقدية لتشمل الفلسفة والمنطق وعلم الكلام، وبهذا اتسعت رقعة النظر واتسع معها أفق الناقد. وحين بلغ القرن الرابع للهجرة منتهاه، كان النقد قد خرج من دائرته اللغوية الضيقة إلى أفق ثقافي شامل، وأدرك النقاد أن النص الأدبي ليس ألفاظًا منمقة فحسب، بل كيانًا حيًا تتفاعل فيه اللغة والفكر، والموسيقى الداخلية، والنفس الإنسانية بكل تعقيداتها. مع مطلع النهضة الحديثة، تجدد الوعي النقدي من جديد، واتسعت مجالاته حتى غدا النقد مهمة شاقة تتطلب ثقافة موسوعية تجمع بين الفنون والعلوم والآداب. فلم يعد الناقد مجرد متذوق أو موازن بين نصوص، بل صار قارئًا مبدعًا، يفسر العلامات والدلالات، ويستنطق النص في ضوء المناهج البنيوية، والتفكيكية، والهرمنيوطيقية، والنقد النفسي، والاجتماعي، والثقافي. لقد أشار رولان بارت إلى أن “النص هو حقل للمعاني المفتوحة”، أي أن العمل الأدبي ليس كيانًا مغلقًا يُحكم عليه من الخارج، بل فضاء للحوار بين النص والقارئ، حيث تتداخل الثقافة والخبرة والمعرفة في تكوين الفهم. ومن ثم، صار الناقد معاصرًا ليس مجرد مستنطق للجماليات، بل مؤسسًا لمفهوم القراءة الناقدة المتعددة المستويات. أما تيودور أدوورنو فاعتبر أن الثقافة والوعي النقدي مرتبطان بعلاقات المجتمع والاقتصاد، وأن النصوص الأدبية لا تُفهم بمعزل عن ظروفها التاريخية والاجتماعية. وبهذا يصبح الناقد موسوعي المعرفة، ملمًا بالسياق التاريخي والثقافي والسياسي، بحيث يمكنه الكشف عن البنية الاجتماعية والأيديولوجية للنص، وموازنة الجمال بالمعنى والقيمة. وفي مجال النقد النفسي، ركز سيغموند فرويد على أن النص الأدبي يعكس أعماق النفس الإنسانية، وأن قراءة النص تتطلب قدرة الناقد على تفكيك الرغبات والدوافع غير الواعية التي تشكل الرواية أو الشعر. بينما جاء جيرار جينيت ليؤكد على دور اللعب بالرموز والمعاني، مؤكّدًا أن النقد ليس مجرد تقرير، بل قراءة إبداعية تتبع أنماط اللغة والرموز، وتفكك العلاقات بين الشكل والمضمون. إن هذه الرؤى النقدية المعاصرة تتكامل مع تراثنا العربي العريق، حيث كانت مدارس النقد القديمة تمارس نوعًا من التحليل اللساني والدلالي، لكنها كانت محدودة بأفق ثقافتها. أما اليوم، فقد أصبح الناقد جامعًا بين الفطرة السليمة، والذوق الرفيع، والمنهج العلمي، والاطلاع على آفاق المعرفة الحديثة، بحيث يقف على تخوم النص، يقرأه في ضوء الماضي والحاضر، ويستشرف ما قد تحمله منه ثقافات المستقبل. وبذلك تصبح ثقافة الناقد الأدبي شرطًا وجوديًا، فبها يحقق التوازن بين الحس الجمالي والعقل التحليلي، بين التراث والحداثة، بين اللغة والمعنى، في قراءة نقدية موسوعية تمتد من جزالة الشعر العربي إلى تفاعلات النص الحديثة، ومن قوانين البلاغة إلى فلسفات القراءة المعاصرة، جامعًا بين المعرفة والفن، بين الذوق والإدراك النقدي الشامل. |
| المشـاهدات 60 تاريخ الإضافـة 01/11/2025 رقم المحتوى 67835 |
توقيـت بغداد









