الأربعاء 2025/11/5 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 14.95 مئويـة
نيوز بار
التراث الشعبي باب للثقافة مفتاحه الوعي
التراث الشعبي باب للثقافة مفتاحه الوعي
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

د. عبد العظيم السلطاني

     التراث الشعبي، باب من أبواب ثقافة الإنسان والمجتمع في كلّ زمان ومكان، لاسيّما في ثقافات كثقافتنا المرتبطة بالماضي بأقوى الأسباب. ففي التراث الشعبي (الفلكلور الذي صار ملكا للمجتمع لا للفرد) عبرة وفيه معلومة، وقد يتضمن إجابة تفك طلاسم لغز في الواقع كان التراث هذا مصدره في يوم ما. وفي هذا التراث إمكانية أن يكون طاقة وأداة للتثوير الثقافي، ويمكن أن تُبرّز دعوته إلى انسجام الإنسان والمجتمع مع زمانه ومكانه، فالتراث الشعبي يتضمّن مشتركات لهذا المجتمع أو ذاك. وبعد كل هذا فهو على صلة بمسألة الهوية، تثبيتا وترسيخا وربطا للإنسان بجذوره كي لا يكون عائما، يسهل اقتلاعه بفعل عوامل التعرية الكونية، التي يمكن أن تصيب الشعوب والمجتمعات، كالغزو العسكري أو الغزو الثقافي الذي يُقصد به مسخ ثقافة الآخر لا التعايش الإنساني.

     واجب، إذن، أن نولي التراث الشعبي العناية والاهتمام، ما دام يتضمن كلّ هذه المنافع فضلا عن تضمّنه جمالا، فهو خزّان ضخم ضمّ كلّ شيء أُثِر عن الأسلاف وتناقلته الأجيال، ووصل إلينا وهو يحمل ما نقشته ثقافة مجتمع في كلّ ما أنجزه، ماديا ومعنويا، حتى صار دالا على هوية ذلك المجتمع. وهو متنوّع، فبعضه غير مادي كالآداب الشعبية، والأساطير المتناقَلة، والقصص المسرودة سواء أكانت خرافات أم حقائق، وكالفنون في الاحتفالات والطقوس، من رقص وموسيقا وغناء، وكالعادات والتقاليد الاجتماعية، وما سوى ذلك. وبعض الموروث الشعبي ماديّ، كالمنسوجات والأزياء والأواني وطرائق الطبخ وفنون العمارة، وكل ما يشبه هذا.

     لكن هذا التراث الشعبي نفسه سيف ذو حدين، وإن لم يُدرس بعلمية ووعي مناسب قد تكون لهذا الدرس عواقبه وسلبياته. فقد تكون للعناية العمياء بالتراث الشعبي آثار سلبية على الوعي العلمي للأجيال، فبعض الحكايات الشعبية والقصص والأشعار والعلامات الثقافية تتعلق بالسحر والشعوذة والخرافة... وهذه كلّها يمكن أن تُؤثّر سلبا على وعي الأجيال حين تُصوّر لهم وكأنّها جزء حقيقي من منطق الحياة، وتُقدّم لهم وكأنّها اُختُبِرت وتأكّدَت الأجيال السابقة من صوابها. وحين لا تُقدَّم بطريقة سليمة قد تؤثّر سلبا في وحدة الوطن وتقف بالضد من الرغبة في صهر مكوناته بهوية جامعة، كلّ هذا يمكن أن يحصل حين تُقدّم فكرة تنوّع الموروث الثقافي وكأنّها أدلّة على استقلال الهويات الفرعية تاريخيا وتتضمن إمكانية دافعة للاستقلال أو الانفصال في الحاضر.

      والبحث في التراث الشعبي يتضمن منزلقا خطرا، فقد يكون بوابة للنكوص الثقافي حين يكون المتصدي للبحث مأخوذا بذلك التراث منحازا إليه بلا وعي، ولا يهتدي بهدي الموضوعية، فيسعى في بحثه إلى إحيائه وكأنّه حاجة اليوم السليمة المناسبة للحاضر!، وإن لم يكن كذلك في بعض جوانبه. وقد يكون على الضد، نافرا منه رافضا لكل تفاصيله وينتهي به البحث إلى التجنّي على التراث الشعبي، فيتضمن البحث فيه دعوة الناس إلى الابتعاد عنه، وكأنّه رجس ولعنة ودليل تخلّف!. فالعناية بالتراث الشعبي علم وصناعة، وليس ارتجالا أو انسياقا وراء عاطفة الحب أو البغض.

      التراث الشعبي مجال واسع متنوّع، ولن يكون درسه نافعا إلّا في ظل معرفة علمية قادرة على الفهم والتصنيف وتحديد مفاهيم المصطلحات وحدود الحقول، ولا تتحقق المنفعة إلا في ظلّ وعي بأهمية المعرفة في هذا المجال، مثلما هي بحاجة إلى وعي ثقافي مساند يمنع الانزلاق ويحدد نزاهة الهدف. والبحث المعرفي المنضبط، مثلما يقود إلى ضبط المفاهيم وتحديد الحقول؛ فإنّه سيُميّز بين الدراسات الثقافية حين تُعنى بالثقافات الجزئية والفرعية وثقافة المهمشين وما سوى ذلك، في زمان تلك الدراسات، أي ليس في الماضي؛ وبين العناية بدراسة التراث الشعبي من جهة كونه حاملا لثقافة شعبية ومعبِّرا عنها، ورافدا من روافد ثقافة معاصرة. فهذا التراث الشعبي عام وهو نتاج لواقع الطبقات الاجتماعية والثقافية في زمن مضى. ويمكن أن نجد فيه أكثر من نتاج يُعبّر عن مختلف الطبقات الاجتماعية والثقافية في زمانه. فنجد تراثا للطبقة "المخملية" في زمانها، ويمكن أن نجد تراثا للطبقة المسحوقة، أو الطبقة الوسطى... ومثلما يمكن أن نجد تراثا من منتجات المدينة ونجد تراثا من منتجات الريف أو بيئة الصحراء أو الأهوار وغير ذلك.

     درس التراث الشعبي بحاجة إلى آليات بحث منضبطة وفاعلة، ونفع الهواة غير المؤهلين ضئيل. لذا ليس كثيرا عليه أن يُدرس في المؤسسات الأكاديمية. وليس كثيرا أن يكون في كل جامعاتنا أو بعضها مركز للدراسات الثقافية أو وحدة للدراسات الثقافية في أقلّ تقدير. وفي هذا يتحقق أكثر من هدف، ففيها سيُدرس مجمل ما أُنْجِز من تراث شعبي، ولا يقتصر على دراسة الأدب الشعبي، فثمّة تراث شعبي في مختلف المجالات الحياتية... ثمَّ إنّه والحال هذه سيَدرس مجمل التراث الشعبي المعنوي والمادي في أجوائه الثقافية وظروفه التي أنتجته. وفي هذا ستبدو أواصر الالتحام والإطار الفكري الثقافي الذي أنتج مجمل التراث الشعبي، وليس جزءا منه كالأدب الشعبي مثلا. فضلا عن أنّه سيوفر فرصة لمجمل تجليات الثقافة في حقول ذلك التراث وأنواعه، ودرسها سيكون أيسر ونتائجها أفضل، لأنّها منهجيا في حال أفضل، فهي موضوعات متنوعة لكنها مرتبطة بشيء واحد، هو أثر الثقافة وهي تفعل فعلها في حياة الناس وما أنجزوا من تراث شعبي.

 وفضلا عن كلّ هذا فهذه المراكز البحثية- أو الوحدات- تجنّب اضطرابات أخرى يمكن أن تقع، كأن يُدرس الأدب المكتوب باللهجة العامية حين يكون جزءا من التراث الشعبي في قسم اللغة العربية، وفي هذا مشاكل ومحاذير. فليس من الحكمة خلط الأشياء، فالعربية الفصحى مثلا لها مكانة خاصة في النفوس، وهي هويتنا الكبرى، ولها ارتباطها بالمقدس القرآني، ولها حقلها المستقل الخاص. وقد تبدو مفارقة أن يُدرس الأدب المكتوب بالعامية في قسم علمي كُتب على بابه: "قسم اللغة العربية وآدابها". فهذا قسم متخصّص بدرس اللغة العربية وبالآداب المكتوبة بهذه اللغة حصرا. وهنالك فرق بين دراسة الأدب العامي (وبعضه تراث شعبي) في أقسام اللغة العربية وبين دراسة ظواهر لغوية في لهجات محلّية مثلا، لفهم جذورها اللغوية وطبيعة انتمائها للفصحى ومعرفة المستجد منها. فهذا ممكن لأنّه موضوع محدّد منظور إليه من وجهة نظر لغوية، واللهجة هنا هي الموضوع المدروس، وليست أداة مستعملة في كتابة ذلك الأدب. واللغة العربية الحالية لم تعد لهجة من لهجات العرب، فهي اللغة الرسمية منذ ألف عام ونصف، وارتبطت بالقرآن كونها لغته، فصارت آصرة مشتركة وعنصرا أساسيا من العناصر التي كوّنت هوية كبرى.

المشـاهدات 112   تاريخ الإضافـة 04/11/2025   رقم المحتوى 67979
أضف تقييـم