| النـص :
يبدو اننا في العراق، وبسبب الاوضاع التي اوصلتنا الى الحضيض، قد نجد انفسنا مضطرين لان نحذو حذو الفرنسيين في القرن الثامن عشر، حينما ضحوا بواقع الديمقراطية الوليدة، وارتضوا بحكم الرجل الواحد، نابليون بونابرت، املا في الخلاص من الفوضى التي انهكتهم.كانت تلك المرحلة اشبه بمرجل يغلي بسبب الاضطرابات:ثورات متلاحقة، وانقسامات سياسية، وتدهور اقتصادي واجتماعي شامل، حتى سئم الفرنسيون كل حديث عن الحرية والمساواة، وصاروا يرون في " المنقذ الفرد " مخرجا مؤقتا من التيه وربما الضياع العام.لم يكن نابليون يومها سوى ضابط طموح، لكنه قرا المزاج الشعبي قراءة دقيقة، وفهم ان الناس حين ترهقها الفوضى، لا تبحث عن الحرية المجردة، بل عن الامان والنظام ولو على حساب الديمقراطية. وهكذا، بأسم الاستقرار، قدمت فرنسا الحرية قربانا للطمأنينة.وفي العراق اليوم، تتشابه الظروف الى حد مقلق: تعدد القوى السياسية دون مشروع وطني موحد،اما بسبب الطائفية المقيتة ، او للاستحواذ على اكبر نسبة من المغانم، ضعف المؤسسات، انهيار الثقة بين الشعب والسلطة، واستشراء الفساد حتى صار الفاسد هو من يتحدث باسم الاصلاح. لهذا وبعد اكثر من عقدين من التجربة الديمقراطية، بات المواطن يشعر ان صوته لم يعد ذا قيمة، وان الانتخابات ليست سوى اعادة تدوير للوجوه ذاتها، وان الديمقراطية المزعومة لم تجلب له سوى القلق والضياع وانعدام الافق. وهنا يبرز السؤال الخطير: هل يمكن ان يقود اليأس من الديمقراطية الى القبول مجددا بفكرة "الحاكم القوي" او " المنقذ الفرد"؟ وهل يمكن ان تتكرر تجربة نابليون في العراق، ولكن بصيغة جديدة؟ التاريخ يعلمنا ان الشعوب، حين تتعب من تعدد الاصوات المتنافرة تفقد الثقة بالمؤسسات، تميل طبيعيا الى البحث عن رمز واحد يجسد الدولة، حتى لو كان الثمن تراجع الحريات. غير ان الفارق الحاسم يكمن في طبيعة "المنقذ" نفسه: هل سيكون مستبدا جديدا يضيف ظلما على ظلم؟ ام انسانا تاريخيا يعيد بناء الدولة من رمادها كما فعل نابليون في بداياته؟ ان العراق اليوم لا يحتاج الى ديكتاتور، بل الى قائد -زعيم- عادل وقوي، يمتلك رؤية وطنية خالصة، وارادة سياسية صلبة، وقدرة على فرض القانون بعدالة. فالدول التي انهكتها الفوضى لا تنقذها النصوص، بل القادة الذين يكتبون الدساتير بافعالهم قبل اقلامهم. وربما نعيش الان تلك اللحظة التاريخية ذاتها التي عاشها الفرنسيون يوما، حين فقدوا الثقة بكل الطبقات السياسية. غير ان الامل يبقى في ان لا نعيد اخطاء الماضي بحذافيرها، وان نجد طريقا ثالثا: طريق الدولة العادلة القوية، لا الدولة المستبدة ولا الدولة الفوضوية. الخلاصة…انه مع كل ما تقدم، لا اخفي هواجسي من امكان تحقق ما نطمح اليه ، فمزاجية وثقافة الغالبية من جماهيرنا العراقية تختلف كثيرا عن نظيراتها في فرنسا، بل ربما في العالم كله، والتاريخ العراقي منذ تأسيس الدولة عام 1921 على اقل التقادير وحتى اليوم شاهد حي على مشروعية تلك الهواجس.
|