الأحد 2025/11/9 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 14.95 مئويـة
نيوز بار
الديمقراطية المجهولة.. ولادة مُعطلة لسياسة التمثيل في العراق
الديمقراطية المجهولة.. ولادة مُعطلة لسياسة التمثيل في العراق
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب باسم قاسم
النـص :

عقودٌ من القمع والصمت القسري تركت في بنية المجتمع العراقي ندوبًا عميقة لا تُمحى بمجرد تبدّل الوجوه أو تغيير الشعارات. عندما انهار نظام الحزب الواحد، كانت هناك لحظة سكونٍ توّجت بفيضٍ من الأمل؛ أمّلٌ بأن الحرية الشخصية ستستعيد مجراها، وأن السياسة ستعود إلى ذهنيّة الناس كفضاءٍ للنقاش والاختيار، لا كقنطرةٍ للولاء والخوف. كتبتُ ذلك الوقت في داخلي قصيدة انتظارٍ ليست شاعرية فحسب، بل شاهدًا على حقبةٍ طال انتظارها: أن تختار الشعوب من يحكمها، وأن يتحقق معنى المواطنة كما نتصوره نظريًا في كتب السياسة. مضى الزمن، وتصاعدت النوايا الحسنة، وظهرت الأحزاب والمنظمات، وأقيمت انتخاباتٌ حملت رمزية الانعتاق. لكنّ الرمزية سرعان ما اصطدمت بحدودٍ واقعية أكبر من ذريعة التغيير.لم تكن المشكلة مجرد فشلٍ إداري أو تقصيرٍ تقني؛ كانت أزمة بنيوية في صميم الفعل السياسي والاجتماعي. الأحزاب التي تشكّلت كانت غالبًا أطرًا للنفوذ لا أدواتٍ للتمثيل، وبرامجها في كثير من الأحيان شعاراتٌ أكثر منها استراتيجيات. الاقتصاد الريعي، الذي حمَل الدولة تاريخياً على كاهلٍ من اعتمدوا منه، أعاد صياغة الحوافز السياسية: لم تعد الوظيفة العامة خدمةً بقدر ما صارت جائزةً تُمنح لمن أعاد إنتاج الولاء. وفي قلب هذا المشهد تعمقت شبكات الزبائنية والوساطات، ليصبح الفشل في إدارة الدولة خيارًا ليس لقصورٍ فكري فحسب، بل لوجود منافعٍ حقيقية تُستمد من استمرار حالة الفوضى المنظمة.أضف إلى ذلك التشظي الاجتماعي الذي استغلته خطوط الهوية الطائفية والعرقية لتقسيم التمثيل السياسي إلى معاقل مغلقة بدل أن يكون ساحةً تتنافس فيها البرامج. وفي ظل فراغٍ قانوني وضعفٍ في مؤسسات المساءلة، نما منطق القوة الموازية: ميليشياتٌ وسلاحٌ خارج إطار الدولة، ما ضيّق آفاق السياسة المدنية وحوّل القرار إلى نتاجٍ لولاءاتٍ مسلحة أو حساباتٍ إقليمية. كل ذلك لم يفقد الديمقراطية الوليدة ظاهرها فقط، بل هشّم ثقة الناس بالوعود السياسية وجعل من المشاركة مدخلًا إلى خيبة أملٍ متكررة.من زاوية النظرية الاجتماعية والسياسية، ما جرى ليس مجرد إخفاقٍ تقني، بل فشل في تحويل الهياكل والذهنية معًا؛ لم يحدث تحوّلٌ في رأس المال الاجتماعي كي يُمكّن الأفراد من التعامل كمواطنين مستقلين عن أنظمة الولاء، ولم تتبلور مؤسساتٍ تُجبر الفاعلين السياسيين على تقديم حسابٍ حقيقي أمام الجمهور. دون هذا التحوّل المضاعف، تتحول الانتخابات إلى سيركٍ انتخابي يُكرّس نفس الأنماط القديمة تحت ستار التجديد.ومع ذلك، لا يمكنني أن أكتب هذا التاريخ دون أن ألمس ما يمكن أن يكون طريق الخلاص من دوامة الإحباط. لا يكفي أن نُطالب بالحكم الرشيد، بل يجب العمل على بنائه: مؤسسات قضائية مستقلة تستطيع أن تفرض القانون دون تمييز، أطر حزبية تُبنى على قواعد داخلية شفافة وبرامج واضحة، سياسات اقتصادية تكسر احتكار الريع وتفتح المجال أمام اقتصاد منتج ومؤسساتية، وبرامج عدالة انتقالية تُصيغ حسابًا أخلاقيًا وعمليًا مع إرث العنف بحيث لا تُترك الذاكرة للانتقام أو النسيان فحسب. كما أن الثقافة السياسية نفسها—التربية المدنية، وسائل الإعلام المستقلة، المجتمع المدني النشط—هي العمود الفقري لأي تحول حقيقي؛ لا يمكن للمؤسسات وحدها أن تصنع نظامًا ديمقراطيًا إن ظل الناس يقيّمون السياسي عبر معيار الولاء أو المصلحة الضيقة.أعرف أن هذه اللغة قد تُسمع متقاطعة بين التحليل والنداء، لكن عراق اليوم يطلب منا أن نقرأ الماضي بصرامةٍ علمية وأن نحلم بالمستقبل بجرأةٍ أخلاقية. إنّ الاستفادة من تجارب الانتقال في أماكنٍ أخرى لا تعني نسخًا آليًا، بل اقتطاع ما يصلح لبنيةٍ عراقيةٍ معقدة، وابتكار أدواتٍ محلية تُلائم تركيب المجتمع والدولة. وهنا يكمن التحدي الأكبر: أن نحول آلام التاريخ إلى سياساتٍ تبني ثقةً جديدةً، وأن نعيد إلى السياسة معنى الخدمة لا التوزيع، وإلى المواطن معنى المطالبة لا التسليم. إن لم نفعل فستنحسر الديمقراطية إلى مجرد إطارٍ شكلي، وسيعود التاريخ ليطلب ثمن صمته من أجيالٍ أخرى. أما إن نجحنا—فستبقى دماء الشهداء، التي سقت الأرض، شاهدةً على أملٍ أن يتحقق أخيرًا وطنٌ يحكمه قانونٌ وعدلٌ وكرامة إنسانية

المشـاهدات 90   تاريخ الإضافـة 08/11/2025   رقم المحتوى 68097
أضف تقييـم