الأربعاء 2025/11/12 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
السماء صافية
بغداد 17.95 مئويـة
نيوز بار
اللون كصوت داخلي للكون : قراءة في لوحة الفنانة التشكيلية البلجيكية جينيفيف جيفارا
اللون كصوت داخلي للكون : قراءة في لوحة الفنانة التشكيلية البلجيكية جينيفيف جيفارا
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

صلاح راشد

كاتب من ليبيا

 

 

 

هذه اللوحة للفنانة التشكيلية البلجيكية جينيفيف جيفارا تتبدّى كأنها ارتحال في كثافة لونية غامرة ، حيث ينهض الأزرق بما يحمله من طبقات رمزية ودلالات روحية ليغدو فضاء يفيض على العين كبحر داخلي ، لا تحده ضفاف ولا يقيد اندفاعه سوى ذلك التماوج الأبيض الذي يخترق عتمته ككائن نوراني يشفّ عن حضور خفي . إننا أمام سطح بصري يتجاوز فكرة التمثيل ليعانق اللامرئي ، فالأثر هنا ليس مشهدا يُرى بقدر ما هو أثر يُستشعر ، نداء يتوزع بين الصعود والانغمار ، بين التفتت والتماسك ، حيث تنبض اللوحة ككائن يتنفس عبر مساحات اللون المتشابكة .

كما إن هناك ضربات حرة للفرشاة تتخذ طابعا انفعاليا ، لكنها في الوقت ذاته تنسج نظاما داخليا صارما ، كأن الفوضى الظاهرة ليست إلا غطاء لحركة أعمق تحاول أن تعيد ترتيب الفوضى الكونية وفق إيقاع داخلي . إن البياض الذي ينهض في المركز ليس مجرد عنصر بصري ، بل هو مقام روحي ، جسد من نور يتكثف ليصير علامة على إمكان التجلي ، بينما الأزرق الداكن المحيط به يبدو كغلاف كوني ، يعكس قلق الوجود وانفتاحه على احتمالات الغياب .

هذا التوتر بين العتمة والضياء يمنح اللوحة طابعا وجوديا ، فهي تكتب بلغة اللون أسئلة الإنسان أمام اللامتناهي : أين يبدأ الحضور وأين ينتهي الغياب ؟! وكيف يمكن للعين أن تلتقط ما لا يقاس ؟ وكيف يمكن للجسد أن يذوب في محيط أبدي لا يحده سوى صرخات اللون وإيقاعات الفرشاة .وضمن هذا العمق ، يتسلل الأخضر بدرجاته كأثر أرضي ، يذكر بأن هذا التجلّي الروحي لا ينفصل عن الطبيعة ، بل ينبع منها ويعود إليها ، كأن اللوحة تعيد كتابة دورة العناصر : من زرقة السماء إلى خضرة الأرض ، من بياض النور إلى سواد العتمة .

تجربة الفنانة جينيفيف جيفارا هنا تُحيلنا إلى مقاربات بصرية وفكرية عديدة ، فهي تقترب من عوالم كاندينسكي في بحثه عن الروح في اللون ، كما تلامس البعد الروحي في أعمال مارك روثكو حين يختزل اللوحة إلى مساحات مشحونة بالوجد ، لكنها في الوقت ذاته تحمل فرادة تنبع من حساسية شخصية تجعل اللون أقرب إلى نص شعري مفتوح . إنها لوحة تنتمي إلى سلالة الأعمال التي لا تُقرأ بعيون المتلقي فقط ، بل تستدعي قلبه وروحه كي يشارك في ارتحالها نحو اللامرئي .

ما يميز هذا العمل في خلاصة الرؤية أنه لا يقدم صورة بصرية ثابتة ، بل تجربة روحية مفتوحة على الاحتمال ، حيث يتحول اللون إلى لغة للغياب والحضور ، والضوء إلى كيان يتجلى وسط كثافة العتمة . إن قوة اللوحة تكمن في طاقتها التأويلية ، فهي لا تنغلق على معنى واحد بل تنبض بكثافة رمزية تسمح للعين والروح أن تعيش ارتحالًا متجددا في كل مشاهدة .

بهذا تصير لوحة جينيفيف جيفارا مساحة يتقاطع فيها البصري مع الروحي ، الجمالي مع الوجودي ، وتغدو فعلا فنيا يؤكد أن الفن الحق لا يصف العالم بل يوسع حدوده .

تتنامى اللوحة في انسياب شعري متدفق ، كما لو أن اللون نفسه يتحول إلى قصيدة تُكتب على قماشة الروح ، وليس من الغريب أن يتبدّى هذا النفس الشعري العميق ، فالفنانة جينيفيف جيفارا شاعرة قبل أن تكون رسامة ، تحمل في رصيدها قصائد تنبض بعذوبة داخلية ورؤى مترفة بالخيال . إن انخراطها في فضاءات المعارض ومواكبتها للمنتديات الأوروبية وبعض العربية لم يكن مجرد حضور عابر ، بل كان رافدا زاد من عمق تجربتها ، ووسع مداركها البصرية ، وأسهم في صقل حساسيتها ، حتى غدت ضرباتها اللونية أشبه بارتعاشات صوت داخلي ، يُحوّل اللوحة إلى فضاء تتجاور فيه التجربة الشعرية مع التجربة التشكيلية ، في تلاحم لا يُفرق بين الكلمة واللون ، بين الإيقاع البصري والموسيقى الخفية التي تسكن النصوص .عند مقاربة هذا العمل بما تقدمه جينيفيف جيفارا في أعمالها السابقة التي اعتادت نشرها وعرضها على صفحتها الشخصية ، يتبدّى بوضوح أننا أمام نقلة في الكثافة التعبيرية وعمق التكوين . ففي أعمالها الأولى كثيرا ما كانت تميل إلى البوح المباشر باللون ، حيث الأزرق والأخضر يتوزعان على السطح بجرأة لا تخلو من عفوية ، وكان الخط البصري أقرب إلى البحث عن إيقاع داخلي غير مكتمل ، كأنها في حالة تمرين روحي على القبض على المعنى . أما هنا فنجدها قد تجاوزت مرحلة البوح الأولي لتبلغ درجة من النضج اللوني ، حيث يتكثف اللون في طبقات تتناوب بين الانفتاح والانغلاق ، ويغدو البياض عنصرا جوهريا لا مجرد مساحة مضيئة بل كيانا محوريا يوجه حركة العين ويعيد ترتيب العلاقات بين الضوء والعتمة .هذا العمل يختلف أيضا من حيث البنية الإيقاعية : ففي لوحاتها السابقة كان الانفعال يتقدم على البناء ، بينما الآن يظهر وعي تركيبي أكثر صرامة ، يجعل من ضربات الفرشاة مسارا هادفا لا مجرد أثر عابر . ومع ذلك فهي تحافظ على توقيعها الخاص ، على ذلك الانفلات الحسي الذي يمنح اللوحة طابعها الشعري ، لكنها تضيف إليه هنا أبعادا صوفية تجعل التجربة أكثر عمقا واتساعا  .

يمكن القول إننا في هذا العمل أمام ثمرة تراكم خبرة وتطويع للعين وهي تتجول وتشارك في المعارض والمنتديات الفنية ، والتي شكلت معرفتي بها حيث لم تعد جينيفيف جيفارا التي تكتفي بالتعبير عن الذات ، بل صارت تسعى إلى ملامسة اللامرئي ، إلى جعل اللون يفتح أبوابا تتجاوز العين نحو الداخل . بهذا المعنى ، تتجلى اللوحة كمرحلة أرقى في مسيرتها ، مرحلة تُظهر انتقالها من شاعرية البوح الأول إلى حكمة التشكيل الناضج  .

المشـاهدات 45   تاريخ الإضافـة 12/11/2025   رقم المحتوى 68185
أضف تقييـم