الثلاثاء 2025/11/18 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 8.95 مئويـة
نيوز بار
ما الذي يوقظنا فعلًا؟
ما الذي يوقظنا فعلًا؟
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب كتب رياض الفرطوسي
النـص :

 

 

 

 

منذ الصباح والمطر ينهمر بخفّة، لا يريد أن يخيف أحداً، لكنه يصرّ على التذكير بأن السماء ما زالت قادرة على لمس النوافذ. في الداخل، لم تكن الغرفة مختلفة كثيراً عني؛ هادئة من الخارج، ومشتعلة من الداخل.

فوق الطاولة اشتعل الحطب، وكل مرة يشتعل فيها، أشعر كأن النار تهمس: “استيقظ… ليس كل شيء نائماً كما تظن.”

 

لم أفكر يوماً لماذا يوقظنا اللهيب أكثر مما توقظنا المصابيح.

المصباح واضح، لكنه بلا ذاكرة.

أما النار، فتنظر إليك كما لو أنها تعرفك منذ زمن بعيد.

تتلوّى، ترتفع، تنخفض… لكنها لا تكذب.

وحده الضوء الذي يتحرك يوقظ فينا شيئاً يشبه الحياة.

 

كنت أتأمل اللهيب وأسأل نفسي بصوت لا يسمعه أحد:

ما الذي يجعل إنساناً يعيش وحدته كأنها وطن؟

ولماذا يبدو الدخول معه في خصومة مثل محاولة دفع جبل بيد واحدة؟

هؤلاء الذين يلوذون بأنفسهم لا ينهزمون بسرعة؛

لأن قلوبهم تشبه آباراً عميقة:

ترمي فيها حجارة غضبك،

فلا تسمع حتى صوت سقوطها.

 

خارج النافذة، كانت شجرة السرو تتلألأ تحت المطر، كأنها تستعيد لونها الحقيقي.

وفي الجهة المقابلة شرفة مضاءة بخفوت، تصدر منها موسيقى هادئة، موسيقى لا تعرف اسمها، لكنك تعرف أنها جاءت لتذكّرك بشيء نسيته.

أحيانًا لا تحتاج الذاكرة إلا إلى نغمة واحدة كي تفتح أبوابها كلها.

 

أغلقت الصوت لأن الخيال بدأ يتعثر بالذكريات.

وحين ساد الصمت، بدت الأشياء أوضح:

الممرّ الضيق، الطريق الذي يختفي خلف الشجر، الضوء الذي ينساب من نافذة بعيدة…

ومع كل مشهد، كانت جملة واحدة ترتفع داخلي:

ما الذي يوقظنا فعلًا؟

 

القط كان ينام قرب النار بطريقة تجعلك تشعر أنه يعرف سرّها.

كان يفتح عينيه حين يهدأ اللهيب، ويغلقهما عندما يعود للاشتعال.

لا أدري إن كان يحلم، أم أنه ببساطة يدرك أن الدفء أيضاً نوع من الحكمة.

 

نظرت حولي، وبدأت أعدّ الأشياء التي تحمل ذاكرة أعمق من كلام الناس:

كرسي يعرف تعب ظهري،

مكتب شهد كل فوضاي،

كتب تشبه وجوهاً من زمن آخر،

ستارة هزّتها رياح لا أذكرها،

وحائط يخفي أكثر مما يظهر.

 

حتى المطر… نعم، المطر نفسه… كائن لا ينزل عبثاً.

كل قطرة تحمل مكاناً جاءت منه، وخطوة ستذهب إليها.

 

وعندما لمست أصابعي سطح الطاولة، تذكرت أن الجسد أيضاً يتذكر.

هناك من تعرفه من المصافحة قبل أن يقول كلمة،

ومن تنساه حتى لو جلس قربك سنة كاملة.

الذاكرة ليست في العقل فقط — بل في اليدين، في العينين، وفي الطريقة التي نخاف فيها من فقدان ما نحب.

 

عند تلك اللحظة، حين تضافر صوت المطر مع حفيف النار، وشهقة الضوء على الجدار، شعرت أن السؤال القديم عاد من جديد، أشد وضوحاً من قبل:

 

ما الذي يوقظنا فعلًا؟

ليس الضوء الكبير ولا الضجيج العالي.

توقظنا الشرارات الصغيرة:

نظرة، لمسة، لحن، لهب، قط نائم، مطر يلمس النافذة…

وتوقظنا تلك اللحظة التي نتذكر فيها أننا ما زلنا أحياء رغم كل شيء.

 

ربما هذا ما تفعله النار في النهاية:

لا تعطينا الضوء…

بل تعطينا سبباً لنفتحه في الداخل.

المشـاهدات 17   تاريخ الإضافـة 18/11/2025   رقم المحتوى 68377
أضف تقييـم