إقصاء المؤلف في رؤية عبد الله الغذاميّ
![]() |
| إقصاء المؤلف في رؤية عبد الله الغذاميّ |
|
فنارات |
أضيف بواسـطة addustor |
الكاتب |
| النـص :
د - رسول عدنان/ أمريكا
رصدتُ من خلال عدّة كتب قرأتُها للدكتور عبد الله الغذاميّ، الكيفيّة التي ينفرد بها بنصوصه، و يمارس إقصاءأً واضحاَ للمؤلف، و هذه الكتب هي ( أسئلة الثقافة ) و ( الخطيئة و التكفير ) ( الكتابة ضد الكتابة ) ( تشريح النص)، أُشبِّه الغذاميّ كفارس ينفرد بطريدته، يلاحقها حتى تستلمَ لمصيرها و تقعَ بيده، هكذا ينفرد الغذاميّ بالنصّ، إنّه ينتزعُه من موهبة مؤلفه و من بين أفكاره، ليحوّله الى كيانٍ آخر محتفظاً بالصور بنسختها الأصلية، لكن ينطلق بها الى تأويلات و تفسيرات لم تخطر حتى على خلد صاحبها، ثم يعمد الى تفكيكها أي هدمها ثم إعادة بنائها من جديد، و هكذا ترجم بشكل واضح مقولة جاك دريدا ( اذا كان التفكيك مدمّرا حقّا، فليدمر ما شاء من الأبنية القديمة المشوّهة، من اجلِ ان نعيدَ البناء من جديد)، و هذا يترجم عمليا ما ذهب إليه الفيلسوف و الناقد الألماني فولفغانغ إيزر و الذي (Wolfgang Iser) عُرف بطروحاته الرائعة حول علاقة القارئ بالنص حيث قال ( النص الأدبي ليس كيانًا مغلقًا ذا معنى ثابت ونهائي، بل هو بنية مفتوحة تحمل مجموعة من الإمكانات والدلالات غير المكتملة، تنتظر القارئ ليُفعّلها من خلال عملية القراءة) يرى إيزر أنّ المعنى لا يوجد داخل النص وحده، ولا في ذهن القارئ وحده، بل يتكوّن في المسافة التفاعلية بين النص والقارئ فالنص يقدم إشارات، و فراغات و انقطاعات او ما يسميه ( الفراغات gaps) و هنا يأتي دور القارئ يملأها بخبرته و خياله و تأويله وقد عبّر عن هذه الأفكار في كتابيه الشهيرين "فعل القراءة" (Der Akt des Lesens) والضمير المتخيل (The Implied Reader) و هذا يتقاطع مع جاك دريدا في تسليمه انّ النصّ يحتوي على ثغرات و فراغات يجب استغلالها للدخول الى عوالم النص، و من غيرها لا يمكن إعادة البناء من جديد، و هذه النظرة تلتقي مع دعوة الغذامي في كتابه الخطيئة و التكفير حيث قال ( النص هو محور الأدب الذي هو فعالية لغوية انحرفت عن مواضعات العادة و التقليد) إنّ منظور إيزر يمثل تحولًا مهمًا من النظريات الشكلانية والنصية المغلقة إلى التركيز على التجربة الجمالية للقارئ في النقد الأدبي الحديث، ما جعل دعوته مكملة لدعوات كل من رولان بارث و جاك دريدا و عبد الله الغذاميّ، و هؤلاء الأربعة سلّموا بحقيقة مفادها إنّ النص الأدبي ليس كيانا مكتفٍ بذاته، و إن القارئ و تحليلاته لهما الكلمة الأخيرة في الدلالات اللا نهائية للمعاني التي تتولد و تستنبط من كلِّ قراءة جديدة، و في ظل هذه الرؤية التي ألتقى بها النقاد الأربعة، يتحول النص الى نص مفتوح تماما على دلالات يجب إستنباطها عن طريق كل قراءة جديدة لكل قارئ جديد، فالطروحات التي دعا لها إيزر في كتابه الشهير فعل القراءة إلتقت بأفكار الغذامي في كتابيّه أسئلة الثقافة و الخطيئة و التكفير، و التساؤل المشروع هنا: هل كل القارئ يخلق المعنى الذي يريده من النص؟ أم أنّ النص يفرض على القارئ معنى او معاني محددة؟ و بما إنّنا قد سلّمنا الى أن النص ليس كيانا مغلقا ذا معنى ثابت حسب تعبير إيزر، فما المانع ان يتحوّل القارئ الى ناقد يغزو النص و يفتحه حسب رؤية الغذاميّ؟ ( و الدخول في الأدب عمل يشبه الفروسية، فهو غزو و فتح، يتجه فيه القارئ نحو النص، الذي هو المضمار له، و إذا ما كتب القارئ عن تجربته هذه مع النص فهو إذاً ناقد، و ما الناقد إلا قارئ متطور غزا النص و فتحه ) الخطيئة و التكفير ص 10 و هنا يتفق كل من إيزر ب ( يتكوّن في المسافة التفاعلية بين النص والقارئ ) و بارث ب ( هل القراءة هي عملية استهلاك؟) يتفقان مع رؤية الغذاميّ الذي جعل اللغة هي الأداة التي توجه المعنى من خلال عناصر ياكوبسون المرسل و الرسالة و السياق و المعنى، و حسب الغذامي ( فالعلاقة بين السياق و الشفرة متشابكة تشابكا عضويا مكيناً، فلا وجود لأحدهما دون الآخر ) المصدر السابق ص 13 و حتى يستطيع القارئ أن يحدد المعنى الذي إستنبطه من سياق النص، لا بدّ له من معرفة ( و معرفة السياق و إدراكه عملية ضرورية لتذوّق النص و تفسيره، و هذه هي معرفة الجنس الأدبي للنص ) المصدر السابق ص 15 و بما أن القراءة لم تعد عملية استهلاك حسب بارت، بل هي عملية خلق و إنتاج، إذاً لا بد من معرفة موضع النص من السياق، و الذي حدده الغذامي بعناية فائقة بقوله (موضع النص من السياق مثل موضوع الكلمة من الجملة) المصدر السابق ص 14، و ما المانع ان يتحوّل النقد الى تجربة جمالية يكون القارئ هو فارس هذه التجربة؟ فالجدلية بين ( النص يملي المعنى ) او ( القارئ ينتج المعنى ) هي التي تحدد مَن ينتج المعنى و يجدده، و حتى نفكّكَ هذه الجدلية نعود الى فلسفة إقصاء المؤلف : 1- النص يُملي المعنى = قراءة أحادية = حضور تام للمؤلف 2- القارئ يُنتج المعنى = تعدد القراءات = إقصاء تام للمؤلف و الإجابة جاءت في أنصع و أبهى صورها من جاك دريدا ( لا شئ خارج النص ) إلا المؤلف ذاته، و الذي اتفق كل من بارث و إيزر و الغذامي على إنهاء دوره في عملية إعادة إنتاج النص، بوصف هذا النص بأنّه بُنية غير مكتملة يحملُ إمكاناتٍ متعددةٍ للمعنى، ويتركُ للقارئ مجالًا واسعًا للتأويل، حيث يُعتبر تحولًا مهمًا من النظريات الشكلانية والنصيّة المغلقة إلى التركيز على التجربة الجمالية للقارئ، حيث لا تكتمل نظرية التلقي إلا بتحويل القارئ الى ناقد ( و ما الناقد إلا قارئ متطور غزا النص و فتحه ) الغذاميّ المصدر السابق ص 10 ، و رؤية الغذامي تتماهى تماما مع رؤية بارت بنفي إنّ الفكرة التقليدية التي ترى أنّ معنى العمل الأدبي يرتبط بنوايا المؤلف أو بسيرته الذاتية، و كلاهما أكّدا أن النص يولد لحظة قراءته، وأن القارئ هو من يمنح النص معناه و تعبير بارث ( ولادة القارئ يجب أن تأتي على حساب موت المؤلف )، على أنّ الأثنين أتفقا على أنّ مفهوم إقصاء المؤلف لا يعني إنكار وجوده، بل رفض سلطة المؤلف كمرجع نهائي للمعنى، فالنص في رؤية الرجلين عبارة عن نسيج من الإقتباسات، وتعددية صوتية تنحلُّ فيها هوية الكاتب وتُستبدل بتعدد إمكانات الفهم والتأويل، مما يجعل القارئ محور العملية التأويلية حسب بارت و القارئ هو قارئ متطور يغزو النص و يفتحه، فمفهوم إقصاء او موت المؤلف لا يعني غيابه المادي، بل موته التأويلي او موت هيمنته في تحديد معنى النص، حسناً كيف ممكن ان نترجم هذا في الشعر مثلاً، يقول الغذاميّ ( فإنّ الشعر خاصة يعمد إلى تكثيف اللغة، من خلال التركيز على توازنها الصوتي و الإيقاعي، و على استخدام الصور التي تتكوّن في داخل سياق النص، مما يصرف نظر المتلقي بعيدا عن الدلالات المرجعية للكلمات، و يحوّله إلى ما في لغة النص من خصائص فنيّة شكلية ) المصدر السابق ص 26 الملاحظ في هذا التعريف الدقيق هو إنصراف نظر المتلقي او القارئ بعيداَ عن الدلالات التي ترمي لها الكلمات، و في هذه اللحظة يولد نص القارئ من خلال تحويل نظر القارئ الى الخصائص الفنية في اللغة،إذن عملية التلقي تحوّلت إلى ولادة داخل ولادة، معنى داخل معنى، و في كل هذا أين المؤلف؟ لا يوجد مؤلف، و لم يعد له هيمنة او أهمية او قدرة على التأويل في تحديد معنى النص، لأنّ خيوط اللعبة كلّها أصبحت بيد المتلقي، و هكذا ( تتحوّل الكلمة إلى إشارة، لا لتدل على معنى وإنما لتثير في الذهن إشاراتٍ أخرى، و تجلب إلى داخلها صوراً لا يمكن حصرها ) الغذامي المصدر السابق ص 26، فالمعادلة التي أشرنا إليها حضور المؤلف يعني أحادية التفسير، لكن إقصاءه يعني تعدد التفسيرات، وهكذا يتحوّل النص من دلالة واحدة بوجود المؤلف، الى تشظي دلالي بإقصائه، من خلال كلمات النص التي تثير في الذهن إشاراتٍ متعددةٍ فيها صور لا تحصر، نص المؤلف و نص القارئ بلا شكّ انّ نص القارئ يختلف عن نص المؤلف، من خلال عمليات اللذة و الإدراك و الإستنباط و التأويل، فلكل منها رؤية مختلفة عن الآخر في كيفية تأويل النص، فإذا سلّمنا ان للمؤلف معنى واحداً في نصّه، فلا يمكن ان نسلّم انّ للقارئ معنى واحداً أيضا، فالمؤلف شخص واحد، بينما القارئ هم قرّاء و لكلّ منهم نصّه الذي يستنبطه من الأصل، فالنص حسب بارث ( النص يولد لحظة قراءته، وإنّ القارئ هو من يمنح النص معناه) أمّا الغذاميّ فيقول ( تتحوّل الكلمة الى إشارة، لا لتدلّ على معنى و إنّما لتثير في الذهن إشارات أخرى، و تجلب إلى داخلها صورا لا يمكن حصرها و هذا ما سمّاه القرطاجني بالتخييل) الغذامي المصدر السابق ص 26، لكن السؤال هنا هل هذه الحالة حصرا لدى المتلقي دون المؤلف؟ ام مع الأثنين ؟ يجيب الغذاميّ عن هذا بقوله ( حيث يركز على ما يحدثه النص من أثر إشاري في ذهن المتلقي ينتج عنه أن تقوم في الذهن صور ينفعل لتخيّلها، و يتبعها صور أخرى يحدثها الإنفعال اللاشعوري من جهة الإنبساط او الإنقباض- على تعبير القرطاجني ) الغذاميّ المصدر السابق ص 27 ، فإذن الحديث عن المتلقي - القارئ و ليس على المؤلف الذي تم إقصاؤه تماما من المعادلة، فالمسألة هي مسألة كيفية التلقي و تأويله، اي كيفية التفاعل مع قراءة النص، ثم إعادة تشكيله و رسم صوره في المخيلة، و هذه العملية لا يقوم بها الا القارئ، لأنّ تراكيب الصور تتوالى في مخيلته محدّثةً الإنبساط و الإقباض حسب تعبير القرطاجنيّ، وهاتان الحالتان هما مَن يعيد تركيب الصور في المخيلة، و بمجرد إعادة، تركيب هذه الصور وفق مخيلة المتلقي، يتمّ إعادة تركيب المعنى و خلق نص جديد، و في هذا يقول الغذاميّ ( و في إطلاق الكلمة كإشارة حرّة من قيد المعنى لتكون تخييلاَ يحدث أثرا انفعالياَ يثير في الذهن صوراَ لا تؤدي إلى معان موضوعية، و لكن الى صور أخرى تنطلق فيها المخيّلة حرة كحرية الإشارة ) الغذاميّ المصدر السابق ص 27،و هذه هي الكيفية التي يتمُّ وفقها إنتاج المعنى في ذهن المتلقي، و هو بلا شك معنى مختلف عن قصدية المؤلف إنّه معنى القارئ او المتلقي و الذي يتم تشكيله وفق هذه الآلية التي أشار إليها الغذاميّ، و في كلّ هذا أين المؤلف؟ لقد تمّ إقصاؤه تماما من المعادلة، و التي تحوّلت برمّتها إلى معادلة القارئ، الذي غزا النصّ وانفرده بتأويلاته، و هذه التأويلات تتجدد مع كلِّ قراءة جديدة و مع كل قارئ جديد، |
| المشـاهدات 27 تاريخ الإضافـة 18/11/2025 رقم المحتوى 68406 |
توقيـت بغداد









