الكرسي يتكلم
![]() |
| الكرسي يتكلم |
|
كتاب الدستور |
أضيف بواسـطة addustor |
الكاتب رياض الفرطوسي |
| النـص :
عندما ارتفعت الستارة، بدا المشهد كما لو أن القاعة نفسها تتنهّد. النواب يتزاحمون كأنهم لم يدخلوها ليشرّعوا بل ليتأكدوا أن أسماءهم لا تزال على المقاعد. فريق يحمل أباريق الشاي ويمرّ بينها بمهارة نادل عجوز، وآخر يشعل سيجارته بعصبية من لا يعرف ماذا سيُقال، وفريق ثالث يتجوّل ببطءٍ كأنه يتفقّد ملامح السلطة كي يتأكد أنها ما زالت تدور في محيطه.
وفي منتصف القاعة ظهر على الشاشة وجه رجلٍ يحدّق في الجميع بنظرةٍ طويلة متفحّصة، نظرة ليست غاضبة ولا ساخرة، بل تلك التي تقول بلا كلمات: هل هذا كلّ ما حلمتم به؟
رئيس البرلمان يطرق المطرقة بإصرار أبويّ، يطلب الهدوء من جمهور لا يرغب بالهدوء، ومع كل ضربة تهتز القاعة كما لو أن الكرسي نفسه يرتجف.
بعد صراع قصير مع الفوضى، ينهض زعيم إحدى الكتل البرلمانية، يرتّب عباءته السياسية ويصعد المنصة. يبدأ خطابه بصوت يشبه ممثلًا يجيد الوقوف تحت الضوء:
ـ “يا سادة… نحن أبناء المعجزات الحديثة. أنجزنا ما كان العالم يظنه مزحة. بنينا بيوتاً للجميع… للجائع والغاضب، للمتفائل والمتبرّم، للذي يكره الدولة وللذي يعبدها. صار لكل إنسان سقف… حتى الذين لم يعودوا يعرفون معنى السقف.”
يتوقف قليلًا، ثم يواصل وكأنه يسرد ملحمة:
"أعدنا للمدن ماءها الصالح… لا تلك المساكن التي كانت تنهار كلما تنفّس الشتاء، ولا الأزقة التي كانت تنهزم أمام أول سيلٍ صغير. وتلاشت معها تلك البقع الخاملة التي كانت الصرائف فيها تتجاور مع الخرائب كأحلامٍ كسيرة، يمشي بينها أطفال حفاة بثيابٍ هائمة على أجسادهم، بينما في الخلفية تتوهج نيران الآبار النفطية كفصلٍ آخر من المظلومية لا يريد أن يبرد. وسكنت الصور التي كانت فيها النساء والصغار ينقبون في تلال النفايات عن شيءٍ يشبه الحياة، بينما القصور البعيدة كانت تلمع في الأفق كأنها تعيش زمناً آخر. ومن بين كل ذلك صار السفر حقاً لا اختباراً للصبر… بلا طوابير، بلا وجوه متجهّمة، من الجنوب المبتلّ بالشقاء إلى آخر مطار يفتح ذراعيه لأي طريقٍ جديد". انتهى زمن التصاريح المذلة.
يعتدل في وقفته، يمدّ يده:
ـ “وحررنا الناس من عداوات الزمن… صارت السياسة خلافاً لا حرباً، وصار الاختلاف لا يعني خيانة. الأسد يزور الحمل الآن، لا ليلتهمه… بل ليُريه كيف يمكن لقوةٍ أن تتعلم الادب. وصار رئيس الدولة يجلس مع معارضيه على طاولة واحدة دون أن يخاف أحدهما من ظلّ الآخر.”
يرفع صوته بشيءٍ من الزهو، لكن زهواً مدروساً:
ـ “لا طبقات، لا أبواب موصدة، لا امتيازات خلف الستائر. المواطن اليوم يستطيع الجلوس في مطعم فاخر أو مقهى شعبي دون أن يشعر بأنه دخل أرضاً محرّمة. انتهت الألقاب التي كانت كالحجارة المعلقة في أعناق الناس… نحن أبناء اللحظة لا أبناء الجدود.”
يتنقل الخطيب بين الكلمات بدقة:
ـ “فتحنا الأبواب للفن والكتاب والمسرح… لا رقابة إلا على ما يهين العقل. والناس يكتبون الآن بلا خوف… باستثناء خوف واحد: أن يكتبوا شيئاً لا يستحق القراءة.”
يتغير صوته إلى نبرة خفيفة من السخرية الرصينة:
ـ “ووفرنا كل ما يحتاجه المواطن حتى لا يقتله التعب… من طرقٍ صالحة إلى مواصلاتٍ لا تقتل الروح قبل الجسد. صارت المدن تحترم من يمشي على أرصفتها، وصار النظام يعرف أن كرامة الفرد أهم من ألف لافتة.”
في هذه اللحظة، يعلو صوت من المقاعد الخلفية، حاداً وواضحاً:
ـ “جميل… ولكن متى تعيد الأموال التي اختفت حين كنت رئيس اللجنة الاقتصادية ؟”
ترتج القاعة، ليس غضباً… بل كأن الحقيقة نفسها جاءت دون موعد. ينهض نائب آخر يصفق بيده على الطاولة:
ـ “وأنت؟ من يعيد ما جمعته يوم كنت تدير شركات الدولة وتعود كل مرة بحزبٍ جديد كهدية للساحة السياسية؟”
تشتعل القاعة، لكن ليس بالفوضى المعتادة… بل بشيء يشبه ضحكة طويلة مكبوتة. الجميع يرفع صوته في جوقة تهكمية، ليست أغنية ولا هتافاً… بل نبرة واحدة تقول:
“كلنا يعرف كلنا… فممَن نختبئ؟”
وفي اللحظة التي تصل فيها المواجهة إلى حافتها، تهبط الستارة ببطء، وكأنها تعبّر عن رأيها أخيراً: أن العرض لم ينتهِ… لكنه يحتاج فاصلًا كي يستعيد المتفرجون قدرتهم على الفهم.
ويسدل المشهد ستارته. |
| المشـاهدات 11 تاريخ الإضافـة 02/12/2025 رقم المحتوى 68607 |
توقيـت بغداد









