| النـص :

أنور محمد
يتأسَّس عرض مسرحية "الجدار" (كتابة حيدر جمعة، وإخراج د. سنان العزاوي)، الذي حاز على جائزة "التانيت الفضي"، وجائزة أفضل سينوغرافيا (د. علي السوداني) في أيام قرطاج المسرحية 2025، على ممارسة ونشر العنف الجسدي على خشبة المسرح؛ والذي يضعنا كمتفرجين أمام ثلاثة جدران ذات أبواب وفتحات، على يمين ويسار الخشبة، وفي عمقها، من خلال تسع نساء يتعرضن للعنف وكأنَّهنَّ ذبائح بشرية.انحلال وتحلُّل من القيم والعادات. الغرائز ــ وليس السياسات العولمية ــ هي من يلعب دور الشياطين النشيطة في تفشي الانحطاط الأخلاقي. وأعتقد أنَّ هذا ما يؤلم المُخرج سنان العزاوي (نذكِّر هنا بأسطورة أوديب الذي لمَّا عَلِمَ بأنَّه قتلَ والدَه وتزوَّجَ أمَّه وجاءه منها أولاد قام بمعاقبة نفسه ففقأ عينيه). هنا، في المسرحية، يستخدم الأوديب العولمي "تيلسكوبًا" ليرى كيف ينفذ جرائمه اللا إنسانية بدقَّة بحق أخته وابنته وهو يفترسهما كوحش، بل وينتظر مّنْ يُكافئه، وكأنَّ علاقته بهما علاقةٌ بين رجلٍ وكلبه، وليست علاقة بين إنسان وإنسان. وربَّما هذا ما دفع المُخرج لأن ينشر العنف الجسدي واللفظي في فضاء الخشبة. فالحوار/ الملافظات كأنَّها تُمارسُ؛ أو هي مُمارسةٌ لفعل الإرهاب اللغوي ــ كردَّة فعلٍ للضحايا ــ والذي بدا في غاية السحر وهو يؤدِّي دوره الإجرائي والوظيفي في تصعيد الصراع، مع أنَّ الحوار في جانب من مهامه ــ وهذا ما حفظ للحوار قوته ــ كان ذا مسارٍ لتفكيرٍ فلسفي: ما هذا السلوك اللا إنساني والذي يثير الفزع والرعب والقلق. بل أين الأنا المفكِّرة، وليس الأنا العدمية؟ المُخرج العزاوي كمن يقول: كيف تأكلون السمك حيًّا في الماء، والسمك لا يؤكل إلاَّ ميِّتًا، وأنَّ الحيَّ لا يأكلُ الميِّت؟ المُخرج سنان العزاوي مع ممثليه: آلاء نجم، ويحيى إبراهيم، ولبوة عرب، ورضاب أحمد، وإسراء رفعت، وزمن الربيعي، ورهام البياتي، ورنا لفته، ودريد عبد الوهاب، وفيروز طلال، وأيمن الشاهين، وأماني حافظ، وعراق أمين، وعبير الخفاجي، وشيرين أحمد، ونعمت عبد الحسين، وأسيل أحمد، وموسيقى رياض كاظم، وكوريغرافيا علي دعيم، وأزياء زياد العذاري، وماكياج بشار فليح، وعازفة البيانو أميرة عز الدين، التي فتحت في عزفها المثير نوافذ على حاسَّة السمع كَيْ ترى، يضعنا أمام تصورين لجسدٍ اجتماعي، وآخرَ جنسي. جسدان أحدهما قامعٌ، والآخر مقموع. جسدان غير متماسكين، غير ملتحمين، متنافران، متضادان ليحقِّق الصدام غير المتكافئ؛ فالصراع يجري بينهما، فيقوي حركة الممثلات/ الممثلين فتنمو عناصر العرض، وتتطوَّر وتتشابك معنا كمتفرجين، ما يزيدُ من نفورنا واستنكارنا؛ بل يُهيئنا لنصعد إلى الخشبة ونعاقب؛ نقتص من (الذكور) بصفتهم مجرمين خطرين على الإنسانية. الجدار يجب أن يُهدم. صراعات كان المُخرج فيها صارمًا في ضبط عناصر العرض، جهدٌ بدني عنيف بذله الممثلون، جهدٌ بدا مترابطًا بالزمن الواقعي في حركاتهم. إنَّها صورة بصرية من مادة حركية صعبة وقاسية ــ ليست حركة كلاسيكية، أو نمطية، بل حركةٌ تنقضُ حركة، وذاتُ وجهة نظرٍ نقدية، حركة تبني صورة وهي تُقشِّرُ جلدها التنكري لتزيح أقنعتها، فنراها على حقيقتها، وكأنَّ الأفعال/ الأحداث على خشبة المسرح هي أفعالٌ طبيعية، مع أنَّها مُركَّبة من علاقاتٍ جسدية بين الممثلين، ومحفوفة بالمخاطر لقسوتها وسرعة اندفاعاتها، وعلى مدى زمني تجاوز الساعتين (150 دقيقة). المُخرج سنان العزاوي قدم لنا في مسرحية "الجدار" انكسارات الجسد وشهواته؛ غرائزه اللاواعية واللاعقلانية، وكيف تخلى عن أحلامه ومشاريعه الإنسانية، وقد تحوَّل إلى جسدٍ مُجزَّأ ومُفكَّك، أسيرَ النزوات الجنسية والمُحرَّمة، بصفتها نزوات تدميرٍ عنيفة لجسد الغير ــ الغير الذي لا نملكه، الذي هو شريكنا في الإنسانية. وذلك مع ممثلات جعلن الحركة، أوْ صنعن من الحركة، صورةً بصرية مليئة بالعنف والجمال يستحيل التعبير عنها باللغة. صورة غير مُحايدة تثير القلق، أَو هي مثيرة للقلق الوجودي من المصائر التي ذهبن إليها نحو القلق العدمي، فنصير ضحايا الانحطاط الثقافي والأخلاقي للعولمة، وما بعد العولمة.
|