اقتصادٌ مُنهك يبحث عن إدارة رشيدة: قراءة في أزمات العراق المالية![]() |
| اقتصادٌ مُنهك يبحث عن إدارة رشيدة: قراءة في أزمات العراق المالية |
|
كتاب الدستور |
أضيف بواسـطة addustor |
الكاتب نوري حمدان |
| النـص :
يكشف المقال صورة معمّقة للاختلالات التي يواجهها الاقتصاد العراقي، من تضخم الرواتب واعتماد الريع النفطي، إلى الهدر في الاستيراد والفوضى المالية واستنزاف الموازنة بسياسات بعيدة عن التنمية. ويقدّم تحليلاً نقدياً لأسباب التراجع وضرورة إدارة اقتصادية مهنية تُعيد للدولة قدرتها على التخطيط والنهوض. قراءة المقال تمنح فهماً أوضح لما يحدث الآن وما ينبغي فعله لإنقاذ المستقبل.في لحظة يواجه فيها العراق أعقد تحدياته الاقتصادية منذ سنوات، تبدو الحاجة ملحّة إلى مراجعة شاملة لطريقة إدارة الشأن المالي والاقتصادي، بعد أن تراكمت الاختلالات حتى باتت تهدد قدرة الدولة على التخطيط والتنمية. فالأرقام المتداولة اليوم تكشف عن واقع مُقلق: سبعة ملايين موظف ومتقاعد تعتمد رواتبهم التي تصل إلى ثمانية تريليونات دينار شهرياً على خزينة تُستنزف باستمرار، في حين تتزايد نفقات الرعاية الاجتماعية دون وجود آليات دقيقة تضمن وصول الدعم إلى مستحقيه الحقيقيين، ما يجعل جزءاً من هذه الأموال عرضة للهدر والتسرب والازدواجية. ورغم أن رواتب الموظفين والمتقاعدين تبقى حقاً لا يمكن المساس به، فإن استمرار الدولة في تحمل أعباء تشغيلية متضخّمة بهذا الحجم يجعل أي مشروع إصلاحي أو استثماري خاضعاً لضغوط شديدة، إلى الحد الذي أصبحت فيه الموازنة التشغيلية تبتلع معظم موارد البلاد قبل أن تتاح الفرصة لخطط تنموية جدية.وفي الوقت ذاته، يظهر اعتماد العراق المفرط على النفط بوصفه مشكلة مزمنة تعيق كل محاولة لبناء اقتصاد متوازن. فعلى الرغم من وجود قطاعات قادرة على خلق موارد إضافية - مثل السياحة الدينية التي لا تزال إمكاناتها غير مُستثمرة كما يجب، والصناعة المحلية التي تعاني من إهمال طويل - إلا أن الإيرادات غير النفطية ما تزال هامشية أمام هيمنة العائدات النفطية. بل إن مجموع الإيرادات النفطية وغير النفطية، الذي يبلغ نحو عشرة تريليونات دينار شهرياً، لا يتحول إلى مشاريع إنتاجية أو احتياطيات استراتيجية، لأن البلاد تفتقر إلى صناديق سيادية قادرة على استثمار الفوائض المالية بطريقة تحمي الاقتصاد من تقلبات أسعار النفط وتؤمّن للأجيال المقبلة مورداً مستقراً. وهكذا، يقف العراق أمام معادلة مختلّة: موارد مالية ضخمة من جهة، وغياب رؤية واضحة لاستثمارها من جهة أخرى.وإلى جانب هذا الاختلال، تتكشف مفارقة صادمة في ملف الاستيراد. فالعراق ينفق سنوياً ما يقرب من سبعين مليار دولار على عمليات شراء من الخارج، لكنه عملياً لا يحصل إلا على ما قيمته مليارا دولار من السلع الحقيقية، وهو رقم يعبّر عن فجوة هائلة بين ما يُدفع وما يصل فعلاً إلى الأسواق. هذه الفجوة ليست سوى مؤشر على شبكة معقدة من التسريبات المالية، والعمولات، والوساطات، والصفقات غير الشفافة التي تجعل التجارة الخارجية واحدة من أكثر بوابات الهدر استنزافاً لموارد الدولة. وقد ساعد غياب الرقابة الصارمة وضعف المؤسسات على تعزيز هذه الممارسات، فيما بقي السوق الداخلي عرضة للفوضى وغياب المعايير، وكأن البلاد محكومة بتجارة لا تعود بالنفع على الدولة بقدر ما تعود على شبكات المصالح.وإذا كان الاستنزاف يجري عبر بوابة الخارج، فإن الداخل لا يقل خطورة؛ إذ تتكدس الامتيازات السياسية والبيروقراطية فوق كاهل الموازنة، إلى درجة أن بعض المخصصات تمنح للأحزاب ما يصل إلى خمسة مليارات دينار سنوياً، بينما تعاني قطاعات أساسية من شح التمويل وغياب الرؤية. وفي الوقت الذي يرى فيه خبراء أن بناء مصنع واحد قادر على تشغيل آلاف الأيدي العاملة يفوق أهمية تبليط مئات الأمتار من الأرصفة، فإن الواقع يشير إلى عكس ذلك تماماً: إنفاق كبير لا يصنع تنمية، ومشاريع تكميلية تُقدّم للرأي العام على أنها إنجازات، بينما تبقى الصناعة الوطنية خارج دائرة التخطيط.وتزداد الأزمة تعقيداً مع استمرار الفوضى في إدارة ملف سعر الصرف. فالتلاعب غير المدروس الذي يحدث من وقت لآخر يهدد الاستقرار النقدي ويُفقد المواطن قدرته على حماية دخله، فيما تبقى إجراءات الرقابة على المصارف محدودة وغير فعّالة. ومع كل اضطراب في سعر الصرف، تُفتح نافذة جديدة للنشاطات المضاربة التي لا يستفيد منها سوى قلة، بينما يُحمَّل المواطن النتائج كاملة، سواء عبر تآكل قدرته الشرائية أو ارتفاع أسعار السلع الأساسية. ورغم التحذيرات المتكررة من خطورة العبث بسعر الصرف، إلا أن غياب إرادة حقيقية لتنظيم القطاع المالي يجعل هذا الملف عُرضة للتجارب والضغوط السياسية.إن صورة الاقتصاد العراقي اليوم ليست مجرد مجموعة مشاكل متفرقة، بل منظومة متشابكة من الاختلالات التي تعود جذورها إلى سنوات طويلة من الإدارة غير المهنية للملفات الاقتصادية. وما لم تُمنح هذه الملفات لمن يمتلكون الخبرة والقدرة والرؤية، بعيداً عن منطق المحاصصة وتقاسم النفوذ، فإن أي محاولة للإصلاح ستبقى شكلية وغير قادرة على تغيير الواقع. فالاقتصاد، شأنه شأن أي نظام حي، يحتاج إلى إدارة مستقلة، وعقل حسابي صارم، وقرارات لا تخشى مواجهة المصالح التي تعيق تقدّم الدولة.ويبقى السؤال الأكثر إلحاحاً اليوم: هل يستطيع العراق الانتقال من اقتصاد يعالج الأزمات إلى اقتصاد يصنع المستقبل؟ الجواب مرهون بمدى استعداد صانعي القرار لإحداث القطيعة مع الأساليب القديمة، وبناء منظومة اقتصادية تقف على أسس مهنية لا سياسية. فالإصلاح لن يأتي تلقائياً، ولن يتحقق بمجرد إعلان النوايا. إنه يحتاج إلى خطوة شجاعة تُعيد ترتيب الأولويات، وتمنح الاقتصاد العراقي فرصة حقيقية لينهض من جديد. |
| المشـاهدات 57 تاريخ الإضافـة 11/12/2025 رقم المحتوى 68793 |
توقيـت بغداد









