السبت 2025/12/13 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
السماء صافية
بغداد 10.95 مئويـة
نيوز بار
من رماد الضوء يولد الحلم : تجربة الفنان التشكيلي المصري رفقي الرزاز بين الحنين والتمرد
من رماد الضوء يولد الحلم : تجربة الفنان التشكيلي المصري رفقي الرزاز بين الحنين والتمرد
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

 

صلاح الدين راشد

كاتب من ليبيا

 

هذه اللوحات من فرشاة الفنان التشكيلي المصري رفقي الرزاز ، والتي تنفتح مثل نوافذ على عوالم داخلية متوترة ، ملتهبة ، متدفقة ، تتصارع فيها الكتلة مع اللون ، والخط مع المساحة ، والرمز مع الحلم . في أعماله هذه يتبدى اللون لا كوسيلة للزينة أو التزيين ، إنما ككائن ينهض بذاته ، يشتعل ويخبو، يتشظى ويجتمع ، ليؤسس نصا بصريا متكاملا يقيم جدله مع التاريخ مع الذاكرة ، ومع الوعي الجمعي الذي يتجاوز الذات نحو الكوني . اللون هنا يحمل ثقافة متراكمة ، ثقافة قادمة من موروث بصري مصري قديم ومن زخارف عربية وإسلامية ، ومن أسئلة الحداثة التي احتدمت في مدارس الفن الغربي منذ بدايات القرن العشرين ، فخرج العمل متوترا بين المحلي والكوني بين الذات والآخر ، بين الموروث والحداثة .

في اللوحة الأولى ، نقترب من مجاز التجويف الملون من دوامة تتقاطع فيها النيران الحمراء مع العتمة الخضراء ، وكأنها فوهة زمنية تبتلعنا في غياهبها . ملمس اللون المتراكم هنا يذكّر بصرامة فان غوغ في ضرباته الكثيفة ، ولكنه لا يظل حبيس الذات ، إنما ينفتح على حس صوفي ، شبيه بما أنجزه شاكر حسن آل سعيد في مشروعه العراقي التشكيلي الذي جعل من اللون كتابة روحية ، لا مجرد سطح .أما العمل الثاني ، فهو صخب مفتوح على فضاء أسطوري ، حيث يتقاطع النبات مع الجسد ، وتطل الشمس ككائن ناري يوشك أن يفجر اللوحة من الداخل . هنا يقترب الرزاز من نزعة ماتيس في تحرير اللون ، لكنه يظل وفيا لروح عربية مائلة إلى التجريد الرمزي ، تذكرنا بتجارب حامد ندا ومجايليه في مدرسة الفن المصري الحديث ، حيث الكائنات تستحيل إلى طقوس واللوحة تصبح طقسًا بصريا يعيد إنتاج الأسطورة في زمنها الجديد .وفي اللوحة الثالثة ، نلمس كثافة الهندسة الشكلية ، حيث تنكسر الأجساد إلى مقاطع حادة ، متعرجة ، متراكبة تستدعي لغة التكعيبية كما بلورها بيكاسو وبراك ، لكنها مشبعة بطاقة لونية دافئة أقرب إلى الروح الشرقية في احتفائها بالتدرجات الترابية والنارية . هنا ، ينجز الفنان مصالحة بين العنف البصري الذي حملته الحداثة الغربية ، وبين حميمية الموروث الشرقي الذي يجعل الشكل امتدادا لطقوس الحياة  .خلاصة القول إن قدرة رفيقي الرزاز تكمن في جعل اللون نصا ثقافيا بامتياز؛ فهو لا يكتفي بالانفعال الجمالي ، بل يجعل من اللوحة مرأة لثقافة مركبة ، متشابكة تحاور مصر بعمقها التاريخي والعربي ، وتتحاور أيضا مع التجارب العالمية التي صاغت لغة الفن الحديث والمعاصر هكذا ، يتبدى مشروعه الفني كجسر مفتوح بين الذاكرة والحداثة بين الجرح والحلم ، بين الشرق والغرب ، حيث تظل اللوحة في النهاية كيانا حيا ، لا يهدأ ولا يستكين  .في هذا الأفق البصري المتشابك ، يطل أثر بيكاسو كظل متوار، لا يتجلى بوصفه استنساخا ولا تقليدا ، بل كتناص إبداعي حي ، يتنفس داخل بنية اللوحة ويعيد إنتاج ذاته في فضاء آخر . إن شظايا الأجساد المتكسرة ، والتراكبات الحادة بين الخطوط والألوان ، والتوتر القائم بين الداخل والخارج ، كلها تحيل إلى التكعيبية البيكاسية ، ولكنها عند الفنان رفيقي الرزاز لا تُستعاد كايقونة غربية ، بل تُعاد صياغتها بلحم شرقي وذاكرة عربية ، لتغدو أقرب إلى حوار جمالي بين ضفتين بيكاسو في لوحاته أشبه بمرجع أولي ، ولكنه لا يبقى مرجعا ثابتا ، إنما يتحول إلى نص متشط ، تتداخل معه نصوص أخرى من البيئة المصرية من زخارف الموروث الشعبي ، من جدلية الفراعنة مع الأبدية ، ومن شظايا صوفية تبحث عن المطلق داخل الملمس اللوني . وهنا يتحقق التناص الفني في أعمق صوره تناص لا يذيب الذات في الآخر، بل يستعير صرامة الآخر ليمنح الذات قوتها التعبيرية الخاصة فبينما جعل بيكاسو من التكعيب صرخة تحرر من قيود المحاكاة ، جعل الرزاز منه نافذة لتأصيل التجربة ليصير العمل الفني في النهاية شهادة على قدرة الفن العربي على الدخول في حوار الحداثة الغربية ، دون أن يفقد دفئه الداخلي وجذوره التي لا تنقطع . مع تتجلى تجربة رفيقي الرزاز بوصفها ثمرة وعي معرفي وجمالي متراكم ، خلفيته الثقافية العميقة جعلت من لوحاته نصوصا بصرية مشبعة بذاكرة المكان والتاريخ ومفتوحة على أسئلة الحداثة والتجريب . لم يكتفِ الفنان باللون والشكل كأدوات

إبداعية ، لكنهُ حمّلهما ثقل ثقافة واسعة واطلاع دؤوب على منجزات الفن العالمي ،فانعكس ذلك على نضج تجربته التشكيلية التي تنمو ببطء داخلي وتتصاعد بقوة روحية وفكرية . إن قيمته لا تكمن فقط في جماليات أعماله ، بل في قدرته على تحويل الفن إلى مساحة حوارية ، إذ يسهم بحضوره النقدي والثقافي في إثراء البرامج الحوارية عن الفنون التشكيلية ، رابطا بين النظرية والممارسة ، وبين الرؤية الجمالية والدلالة الإنسانية . وإلى جانب ذلك ، يمدّ الفنان الأجيال الجديدة بنصائح تستند إلى كم معرفي واسع ، ويفتح أمامهم مسارات بحث وتجريب ، ليكون بذلك شاهدا ومرشدا ، وفنانا مثقفا يعي أن اللوحة لا تعيش بمعزل عن الفكر، وأن الإبداع الحق يظل في جوهره لقاء بين الثقافة والبصيرة . يمكن القول إن الفنان لا يرسم فحسب ، ولكنه يفكر باللون كما يفكر الفيلسوف بالفكرة . يمتلك حساً فنياً ناضجاً وقدرة استثنائية على الغوص في جوهر الصورة قبل شكلها ، فيعيد اكتشاف العالم من خلال طبقات اللون ومسمات الضوء . في أعماله ، تتجاور المدارس الفنية لا كمذاهب متباعدة ، بل كأطياف تتحاور وتتداخل لتصنع نسيجا بصريا واحد يتغدى من الحضارات الإنسانية الكبرى ! ثمة ظل فرعوني يتكئ على هيبة التاريخ وهناك أنوثة أفريقية تفيض دفئاً وسمارا وايقاعا وروحا ، وكلاهما يلتقيان في رؤية واحدة تؤمن بأن الجمال هو اللغة الأولى للإنسان . يدرك الرزاز بثقافته الرائدة أن الفن ليس قالبا ولا مدرسة تأسره ، إنما هو رحلة وعي مفتوحة على المجهول ، لذلك نراه يعبر من تجربة إلى أخرى يدق أبواب كل مدرسة عابرا بسلاسة روحية نحو التجريد كمن ينتقل من الحلم إلى التأمل دون أن يفقد الإحساس  بالدهشة . فعشقهُ للتجريد ليس هروباً من الشكل ، إنما بحثا عن الجوهر ، عن تلك اللحظة التي يتجرد فيها اللون من ماديته ليصبح فكرا نابضا ، واحساسا نقيا يعبر عن الإنسان في أقصى حالاته صفاء وقلقاً معاً .

المشـاهدات 49   تاريخ الإضافـة 13/12/2025   رقم المحتوى 68831
أضف تقييـم