الأحد 2025/12/14 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
السماء صافية
بغداد 8.95 مئويـة
نيوز بار
قصة قصيرة خيط الماء
قصة قصيرة خيط الماء
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

 

 

حاتم حسين

 

كلّما وقف أمام المغسلة، فتح صنبور الماء على آخره، وكأنّ يده لا تعرف أن تمسّ الماء بانسيابٍ وهدوء. روحه لا ترتوي إلّا أن يرى الماء يتدفّق أمام عينيه بكلّ قوّته، كفرسٍ جامحٍ يصطدم بسطح الحوض، فيتناثر رذاذه على وجهه وعلى المرآة التي أمامه. يمدُّ يديه ليغسل وجهه، فيشعر بانتعاشٍ غامرٍ لا يوازيه شيء. كان يحبّ هذا الإحساس... الماء ينسابُ على جلده كأنّه يُطهّره من أفكاره الثقيلة ومن تعب الأيام. (كأنّ الماء يفهم ما لا يُقال، ويشرب منه ما يثقل القلب).

لكن لا يلبث ذلك الإحساس أن يتحوّل إلى وخزةٍ خفيّة، إذ يعلو صوت الماء وهو يضرب الحوض بلا توقّف. يتذكّر فجأةً ما قرأه في كتابٍ ما: «ولا تُسرفوا، إنّه لا يحبّ المسرفين».

يتوقّف لحظةً، ينظر إلى تدفّق الماء، يشعر بأنّ شيئًا في داخله يعاتبه. (كم مرّةً حاول هذا الصوت أن يصمت، كأنّ في داخله ما يصرّ على البوح، وما بين انسكاب الماء وتردّد أنفاسه على الحوض، كان يحسّ بأنّ الصمت أيضًا له صوتٌ خفيّ، لا يسمعه إلّا قلبٌ يثقل بالندم).

وصوت الماء يعلو، كأنّه تذكيرٌ متواصل، يضرب الحوض بلا مبالاة. يتسلّل شعورٌ خفيّ بالذنب إلى صدره، وهو يرى هذه النعمة تذهب سُدى أمام عينيه. يتلكّأ، يتعاجز، كأنّ أصابعه تثقلها الحركة. يُسرع في غلق الصنبور ليطمئنّ ويوقف تأنيب ضميره، لكنّه يتأخّر لحظةً إضافيّة، كأنّ الصراع داخله أقوى من حركة يده. (لماذا أتردّد في فعل الصواب؟ أهو ضعفٌ أم حنينٌ إلى الخطأ؟)

يخفض المقبض قليلاً في النهاية، فتتحوّل الشلالات إلى خيطٍ رفيع. يبتسم، كأنّه صالح ضميره. يغسل وجهه بخفّة، ويرفع رأسه نحو المرآة، فيرى نفسه مبلّل العينين، نصف مرتاحةٍ ونصف متوتّرة. (كلّما تصالحتُ مع نفسي، أكتشف أنّي لم أفهمها بعد).

لكن سرعان ما يتسلّل صوته الداخلي الآخر، ذاك الذي لا يهدأ أبدًا: «ما الضرر إن تركته قليلاً؟ أليس الماء متوفّرًا؟ أليست هذه لحظتك الصغيرة في الصباح، قبل أن ينهشك ضجيج العالم؟»

يمدّ يده مرّةً أخرى، يفتح الصنبور على آخره. ينهمر الماء كأنّه نهرٌ يفيض. يضحك في سرّه، يغمض عينيه، ويترك الماء يعانق وجهه ورقبته وكتفيه. لكنّ الشعور بالذنب يعود من جديد، يقرصه من الداخل. يغلق الصنبور بعنفٍ. (ما الذي أهرب منه؟ من العطش أم من نفسي؟)

يسود الصمت... إلّا من قطراتٍ خفيفةٍ متأخّرةٍ تخرج من الصنبور، كأنّها أنينٌ ملبّدٌ بصوت صفيرٍ على حافة المغسلة. ينظر إلى الماء الذي بدأ ينسكب، ويتابع انحداره كما يتابع فكرته وهي تضيع.

تذكّر كلمات والده: «يا بُنيّ، الماء حياة، ومن يُفرّط في قطرةٍ منه كأنّه فرّط في نفسٍ من نفوس الأحياء».

يومها كان صغيرًا، لم يفهم ما تعني تلك الكلمات. أمّا الآن، فهو يعيشها كلّ صباح. كلّ مرّةٍ يقف أمام الصنبور، يشعر وكأنّه في امتحانٍ أخلاقيٍّ صغير. لا أحد يراه، لا كاميرات، لا أحد سيحاسبه، لكنّه يعرف أنّ هناك عينًا أخرى تراقب: عين الضمير. (تلك العين لا تنام، تفتح أبوابًا للتساؤل كلّما أغلقتُ جفنيّ).

وذات مساءٍ، بينما كان يشاهد نشرة الأخبار، سمع المذيع يتحدّث بصوتٍ متعبٍ عن «شحٍّ في نزول مياه الأمطار»، و«انحسارٍ في مناسيب الأنهار». قالوا إنّ جيرانه في البلاد القريبة أغلقوا السدود أو حوّلوا مجرى الماء لأسبابٍ اقتصادية وربّما سياسية. رأى على الشاشة صورًا لأراضٍ متشقّقة، لأطفالٍ يحملون أوعيةً فارغة، ولحقولٍ يابسةٍ كانت خضراء في يومٍ ما.

تذكّر حديث أبيه من جديد، وسمع صوته كأنّه يخرج من بين تلك التصدّعات: «الماء يا بُنيّ، إن غاب، غابت معه ملامح الأرض والناس».

تنهّد. حتى جيرانه في الحيّ بدأوا يشتكون من ضعف الماء في الصنابير، ومن حصةٍ تقلّ يومًا بعد يوم. بل حتّى إنّ وزارة الموارد المائية كانت ترسل رسائل على الموبايل للتنبيه والمساعدة لتجنّب شحّة المياه.

قالت زوجته إنّ الناس في القرى رحلوا عن بيوتهم، وإنّ آلاف المزارعين تركوا أراضيهم لأنّ الأرض عطشى لا تجيب. أحسّ بغصّةٍ في حلقه، كأنّ خيط الماء الذي في مغسلته صار رمزًا لخيط الحياة الذي يتناقص من حوله. (كم من الأشياء نفقدها ونحن نحيد بوجوهنا عنها؟)

في إحدى المرّات، قرّر أن يقيس كمية الماء التي يستهلكها في غسله الصباحي. ملأ كوبًا، ثم وعاءً، ثم دلواً. كانت الكمية أكثر ممّا توقّع. شعر بالخجل من نفسه. تخيّل وجوه الأطفال في القرى البعيدة، وهم يحملون أوعيةً فارغةً بحثًا عن قطرة ماء. تساءل: لماذا نحتاج أن نتخيّل العطش كي نقدّر الارتواء؟ (هل يوقظنا الألمُ فقط حين يمسّ الآخرين؟)

منذ ذلك اليوم، بدأ يقف أمام الصنبور وكأنّه يقف أمام مرآةٍ عاكسة. صار الماء بالنسبة له درسًا في التوازن، ليس فقط في الاستخدام، بل في الحياة كلّها.

المشـاهدات 45   تاريخ الإضافـة 13/12/2025   رقم المحتوى 68849
أضف تقييـم