السرد الإيحائي الذي يجعل القارئ جزءاً من تأويل الأحداث
![]() |
| السرد الإيحائي الذي يجعل القارئ جزءاً من تأويل الأحداث |
|
فنارات |
أضيف بواسـطة addustor |
الكاتب |
| النـص : وفاء كمال ،من يريد أن يقرأ رواية "الإبحار إلى كالكوتا" للروائي العراقي "حسن البحار" ،لا يمكنه أن يقرأها كما تُقرأ الرواية التقليدية التي تتحدث عن الرحلات فأدب الرحلات.. يستخدم منهجاً وغرضاً وأسلوباً يختلف عن أسلوب كاتب هذه الرواية.. التي تعتمد على أخطر أنواع السرد ،وأجمله ،وهو السرد الإيحائي الذي يجعل القارئ جزءاً من تأويل الأحداث. فرغم بساطة السرد وجماليته، تجد نفسك مضطراً أكثر من مرة أن تعود لما قرأته، لأن الراوي مزج الواقع بالخيال. واستخدم الفلاش باك في رواية الأحداث. فهو قد درس في الأكاديمية البحرية، لذا امتزجت كل عبارة من عباراته برائحة البحر وارتجاج الموج وطعم الملح،وأرتدت ستر النجاة،وارتعدت من برد الفجر، فالمصطلحات التي يستخدمها لانسمعها إلا عند من خبر البحر وصادقه. لذا لابد من قراءة الرواية بمزاج مركب.. والتمعن بها كما يدقق البحار في أنابيب الوقود وخزانات المياه والمضخات في الباخرة. فحركة الأمواج في البحر قد تماهي أفكار البحار وتردده الداخلي "الإبحار إلى كالكوتا" سيرة شخصية بعيدة عن أدب الرحلات الذي كان يسجل كل ماتقع عليه العيون أو تلتقطه الآذان حتى لو دخل باب الخرافة، وليست رحلة أسطورية. بل هي رواية سردية متقطعة تخلط بين الواقع والخيال والرؤى النفسية. إنها تتحدث باختصار عن الحب الذي كان يجمع البحار بزوجته التي ماتت فأغرقه فراقها بالحزن ،.فجاء قراره في ترك الوطن والسفر إلى تركيا، معتقداً أن السفر هو الخيار الوحيدللخلاص من الحزن ومن القتل المباغت بكاتم صوت ينتظره. ويجعله خائفاًمنذ بداية الرواية،فيهرب من حياته ويقرر الإبحار بعدها إلى كالكوتا في الهند، يصعد الباخرة "أنكي٣"تغرق الباخرة في حادث حقيقي، ينجو من الغرق مع شخصية وهمية ابتكرها لكنه لم ينكرها هي" كامي غريب" الذي ساعده في النجاة من الغرق، ثم حفَّزه أن يكتب عن حادثة الغرق و أسبابها وكأن الراوي كان بحاجة إلى تلك لشخصية ليكتب كيف خرج محطماً. بعد غرق السفينة انتقل إلى تركيا ليبدأ حياة جديدة، لكن الذاكرة بقيت تلاحقه. إكتشف بعد حين أنه لاأحد من الهاربين يستطيع العيش بلا ذاكرة. فالبداية الجديدة مستحيلة بالنسبة له. لأن الهروب يمحو الذات لكنه لاينشئ ذاتاً جديدة،ولعل هذه الذاكرة من أعظم ثيمات الرواية. فقد اختار الراوي هذه الثيمة الجميلة لتكون المفتاح الذي يفتح بقية الأبواب،فهو رغم أنه يظن أن في الهروب خلاص، لكنه لايستطيع العيش دون الماضي. لذا لم يكن الهروب حلاً بل مشكلة. الرواية منذ السطر الأول تبحث في من نكون ؟ماالذي يجعلنا نسعى للهروب؟ قد يظن البعض أنه هروباً جغرافياً،بينما هو في الحقيقة هروب من مواجهة الحقيقة والذنب والكآبة الداخلية ،،لكن تبقى تلك الذاكرة جلاداً رحيماً يؤلم لكنه يحمي من الإنمحاء. فالبحار سيمو لا يستطيع العيش بلا ذاكرة، لكنه في نفس الوقت لايحتملها، لذا هو في حوار دائم مع نفسه. أستطيع /لاأستطيع ... ربما ، لستُ متأكداً،عليَّ أن أفعل لكنني خائف، ماذا لو، لماذا؟ فهو يتصارع مع نفسه أكثر من صراعه مع العالم لذا بدت الرواية وكأنها تراجيديا شكسبيرية فالرحلةأداةلكشف داخله، والمحقق كاج مثل أشباح هاملت.. كاج هو " هوراشيو" رفيقه العقلاني والشبح الذي يراقب الكلمات و يستفز الحقيقة. والتردد الوجودي في الرواية يولد في داخله تشتتاً نفسياً، ينتقل منه إلى القارئ بانتظار أن يقول قولته. لذا نلحظ المقاربة الحقيقية بينه وبين عبارة شكسبير الشهيرة ،"نكون أو لانكون" وهذا مايجعل الرواية أقرب ماتكون تراجيديا داخلية، وليست مجرد سرد أوحكاية حب وسفر وهروب وغرق ،فالملمح ذاته بين حسن البحار و هاملت . والسؤال القاتل حاضر، هل يفعل أم يمتنع ؟ كلاهما يخاف من دوافعه ورغباته، من عقله وذاكرته ،هل يواجه أم يستسلم؟ الشخصيتان مثقلتان بالماضي خائفتان من المستقبل، عاجزتان عن اتخاذ قرار نهائي ،وكلاهما يعاني من التردد. فحين يقول الراوي :أستطيع /لاأستطيع ،هو يختبر قدرته على الإعتراف أمام المحقق كاج. هاملت يضع العالم كله تحت المجهر، والبحار يضع البحر والذاكرة تحت مجهر لايرحم لذا يبدو القارئ وكأنه يدخل وعياً مضطرباً لكنه ناضج. الخوف الحاضر من البداية، ظل مفتوحاً حتى النهاية، وهو خوف وجودي نفسي ومجازي. والبحر يمثل لاشعور الكاتب ويكشف تردده. ورغم كل القلق الاضطراب استطاع الراوي أن يوازن بين ذلك التوتر والجمال في اللغة والسرد،فلدى مقارنة هذا العمل مع أعمال عربية وعالمية أخرى خاضت غمار البحر ، نشعر بتفوقه مرة على " حنا مينه" بلغته التي كانت أكثر شاعرية ومونولوجية بعكس اللغة الواقعية عند "حنا مينه" ،وأكثر جمالاً من لغة "ماركيز"المختصرة وقدتمكن " حسن البحار" أن يفعل مافعله غاستون باشلار "حين حول الأمكنة إلى حالة شعورية نفسية، وليس مجرد موقع جغرافي فكل موقع ارتاده أو حديقة أو مقهى، ميناء أو موجة ،كل شعاع أو صرير، يحمل ذاكرة وحساسية. فهو يحاور البحر باستمرار يحاور الحياة كأنه يعرفها ، ويركز على تفاصيل الأمكنة وجمالها آية صوفيا ،الترام الراحل إلى إكساسراي الشوارع والنصب في زوايا الساحات يتخيل نفسه قطب الأرض وهويستحضر قول نابليون :" لو اجتمع العالم ببلد واحد لكانت اسطنبول عاصمته "حين يحدثنا عن المكان نشعر أننا نرافقه الرحلة بكل أحاسيسنا ،حتى لنكاد نشعر بالاختناق في لحظات غرقه. فالوصف.ياالله. لايمكنك أن تمل من براعة الوصف لدى" حسن البحار" وخصوصاً وصف البحر بكل تقلباته ،ذلك الوصف الذي لايمكن للإنسان العادي ولاحتى البحار العادي أن يتقنه.. فالصور مختزنة في جسده وعقله ،لايمكن أن يتخيلها إلا من صادق البحر وعاش معه في حالة صفوه وغضبه، حتى بات حالة شعورية ونفسية. لذا نجح "حسن البحار" بجعل الرواية تدخل ضمن السرد الروائي الشعري،فاللغة لم تفرط بالزخرفة أو البلاغة لكنها طرحت مشهدية صورية منضبطة ومؤثرة وهذه الميزة نادرًا مانجدها في الرواية المعاصرة. من منظور آخر، تتحرك الرواية في أبعاد وجودية ونفسية أكثر من كونها مجرد حكاية بحرية، حيث تصبح السفينة والبحر والخوف عناصر سردية متشابكة مع النفس، في حين أن الروايات البحرية الأخرى غالبًا ما تركز على الصراع مع المجتمع، أو الطبيعة، أو القدر، أو الكرامة. هذا يجعل تجربة قراءة" الإبحار إلى كالكوتا" فريدة، حيث يتعاطى القارئ مع الرواية على مستويين: مستوى الجمال اللغوي والوصف، ومستوى الصراع النفسي الداخلي، مما يخلق تجربة قراءة مزدوجة وغنية، مختلفة عن التجارب البحرية العالمية المعروفة، ويؤكد على أن الرواية ليست مجرد سرد لمغامرة بحرية، بل دراسة نفسية وفلسفية للذات البشرية في مواجهة الخوف و الهشاشة، |
| المشـاهدات 15 تاريخ الإضافـة 21/12/2025 رقم المحتوى 69171 |
أخبار مشـابهة![]() |
دبي أوبرا تستضيف أمسية موسيقية يمنية ضمن نغم في دبي السيمفونيات التراثية
|
![]() |
وفد الديمقراطي الكردستاني يزور بغداد في خطوة سياسية مرتقبة
صراع رئاسة الجمهورية يتجدد.. اليكتي يحذر من مزاحمة البارتي |
![]() |
السيد الصدر يصدر بيانا من 12 نصيحة للتوبة
|
![]() |
جو ويلسون ينتقد القاضي زيدان ازاء موقفه من الفصائل المسلحة العراقية
سافايا إلى بغداد لبحث طبيعة العلاقة بين واشنطن وبغداد بالمرحلة المقبلة |
![]() |
الاطار حسم مرشحه لنائب رئيس البرلمان لكنه متجمد بخصوص رئاسة الوزراء
القضاء يلوح بالفيتو لمنع تجاوز المدد الدستورية لحسم رئاسة البرلمان |
توقيـت بغداد









