الثلاثاء 2025/12/23 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 12.95 مئويـة
نيوز بار
لا دولة بلا مواطن… ولا مواطن بلا دولة... ترتيب الأولويات في العراق، بين إصلاح الإنسان وإصلاح الدولة... سؤالٌ مضلل وإجابةٌ مركبة
لا دولة بلا مواطن… ولا مواطن بلا دولة... ترتيب الأولويات في العراق، بين إصلاح الإنسان وإصلاح الدولة... سؤالٌ مضلل وإجابةٌ مركبة
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب د. سلام قاسم
النـص :

يُطرح سؤال "إصلاح الإنسان أم إصلاح الدولة؟" كأنه مفترق طريقين، إما أن نهذب الإنسان أولاً، أو أن نرمم الدولة قبل كل شيء. غير أن العراق بتاريخه المثقل بالجراح وبطاقاته التي لا تنكر، لا يشفى بمنطق "إما/أو". فالإنسان يعيش داخل الدولة ويتشكل بإيقاعها، والدولة تصاغ من الإنسان وتستنسخ من عاداته وتصوراته. نحن إذن أمام سؤال ترتيب وإدارة للمسارين، لا سؤال إلغاء أحدهما لصالح الآخر.سحر هذا السؤال أنه يمنح إجابة سهلة، اختر طريقاً واحداً وامضِ. لكنه في العمق يختصر بلداً شديد التعقيد في ثنائية كسولة. فالعراق بعد 2003 ليس مجرد مؤسسات تعثرت، بل مجال تتنازع فيه ثلاثة مسارات في آن واحد، دولة رسمية تبحث عن شرعية، ومجتمع أنهكته الحروب والريع واللامساواة، وساحات قوة سياسية/اقتصادية تعيش على الثغرات بين القانون والواقع. في مثل هذا السياق، أي حديث عن "إصلاح الإنسان وحده" يتحول سريعاً إلى وعظٍ مجاني، وأي حديث عن "إصلاح الدولة وحدها" يصير هندسة فوق رمالٍ اجتماعية متحركة.يبدأ أنصار "إصلاح الإنسان" من القاعدة الاجتماعية، يقولون إن الدولة صورة مكبرة للمجتمع؛ فإذا كانت الثقافة العامة مثقوبة بالطائفية والزبائنية و"ثقافة الغنيمة"، فلن تنتج مؤسساتٍ إلا على شاكلتها ولو ازدانت بالدساتير واللافتات. هنا يحضر مالك بن نبي حين جعل "مشكلة الإنسان" قلب مشكلات النهضة، الخلل ليس دائماً في قلة الموارد، بل في ترتيب الأفكار والقيم والعمل. وحين تُصاب الأخلاق العامة بعطبٍ مزمن، يتحول الفساد من حادثة عابرة إلى أسلوب عيش، وتغدو الوظيفة "كسباً" لا "خدمة". وفي العراق تحديداً قدم علي الوردي قراءة اجتماعية قاسية ومضيئة لتمزق الشخصية بين خطاب مثالي موروث وسلوك واقعي تفرضه شروط العيش والسياسة؛ وفضح في "وعاظ السلاطين" كيف يمكن أن تستعمل الفضيلة أحياناً كستار لإدامة الامتياز لا لصناعة العدالة. إصلاح الإنسان، بهذا المعنى، ليس شعاراً بل مشروع تربية وسلوك عام، من المدرسة إلى الجامعة، ومن طابور الدائرة إلى احترام الشارع والمال العام.غير أن هذه الحجة، على وجاهتها، تقع في فخ خطير إذا تحولت إلى تبرئة للدولة، كأننا نقول للناس "أصلحوا أنفسكم" ثم نترك القوانين رخوة، والرقابة نائمة، والعقاب انتقائياً. عندها تصبح النزاهة بطولة فردية مكلفة، والبطولة الفردية لا تبني دولة.في المقابل، يرى أنصار "إصلاح الدولة" أن الإنسان مهما صلحت نيته سيتلون بلون البيئة المؤسسية، إذا كانت الدولة تكافئ الولاء وتعاقب الكفاءة، سيدفع الشريف إلى التكيف أو الخروج. لذلك يصرون على أن البداية الواقعية هي دولة القانون، لأن القانون هو الذي يُعيد تعريف "الممكن" و"الممنوع"، ويعدل الحوافز الاجتماعية. هنا تأتي مقاربة ماكس فيبر حين عرف الدولة بأنها الجهة التي تحتكر "العنف المشروع"، أي التي تمنع السلاح من أن يصير لغة السياسة اليومية. ويجيء فرنسيس فوكوياما ليؤكد أن جوهر الإصلاح هو "قدرة الدولة" لا كثرة الشعارات، مؤسسات تعمل، خدمات تقاس، جهاز إداري يحاسب. ثم يربط دارون عجم أوغلو وجيمس روبنسون ازدهار المجتمعات بنمط المؤسسات، شاملة تفتح الفرص وتقلل الاحتكار، أم استخراجية تحول الدولة إلى ماكينة ريع لصالح قلة. ومن هذه الزاوية، إصلاح الدولة في العراق ليس "مشروع نصوص" بل مشروع تفكيك بنى الريع السياسي، وإعادة بناء القضاء والرقابة والشرطة والإدارة على أساس المهنية لا المحاصصة.لكن هذا الاتجاه بدوره قد يبالغ إذا تصور أن الدولة تعمل في الفراغ. فحين تكون الثقافة العامة معادية لفكرة "المصلحة المشتركة"، تحاصر المؤسسة بأخلاق المحيط، وتعود العلاقات الشخصية لتلتهم القانون من الداخل.الأقرب إلى العقل، إذن، أن نقول إن إصلاح الإنسان وإصلاح الدولة حلقة تغذية متبادلة، الدولة تطبع الناس على سلوكٍ ما عبر الحوافز والعقوبات، والناس يطبعون الدولة عبر الانتخابات والوساطات، وعبر قبول الفساد أو رفضه اجتماعياً. ولعل ابن خلدون يقدم مفتاحاً مبكراً حين ربط قيام الدول بعوامل الاجتماع والعدل، ثم نبه إلى أن الدولة حين تفسد أخلاقها وتختل عدالتها تتآكل من داخلها. الدولة ليست جهازاً فحسب، بل "مزاج عام" مقنن.إذا أردنا ترتيباً عملياً لا يُجامِل الواقع، فالأولوية العاجلة ليست "إصلاح الإنسان" كوعظٍ أخلاقي، ولا "إصلاح الدولة" كمراسيم. الأولوية هي إصلاح العلاقة بين الإنسان والدولة، عقد اجتماعي واضح يضمن حداً أدنى من الأمن والعدالة والخدمة، ويقلص مساحة الافتراس. هذا يقتضي مسارين متوازيين بتركيز مختلف، في العاجل، تقدم الدولة بوصفها شرطاً لكبح الفوضى وتقليل الافتراس؛ وفي المستمر، يُبنى الإنسان بوصفه الضامن لعدم ارتداد الدولة إلى الاستبداد أو الزبائنية.في المسار العاجل، لا تستقيم السياسة العراقية من دون استعادة "شرط الدولة"، حصر السلاح بيد الدولة بوصفه شرط السياسة لا نتيجتها؛ استقلال القضاء وتحصين أجهزة الرقابة لأن الفساد حين يفلت من العقاب يتحول إلى معيار؛ إصلاح الإدارة عبر التعيين والترقية على الكفاءة، وتبسيط الإجراءات، ورقمنة الخدمات لتقليل الرشوة؛ وعدالة الخدمة في الماء والكهرباء والصحة والتعليم، لأنها ليست رفاهاً بل مصدر الشرعية اليومية. وفي المسار المستمر، لا يكفي أن "تصلح الدولة" إن بقيت القيم العامة تُنتج السلوك نفسه؛ هنا يأتي دور التربية المدنية لتعيد تعريف الوطنية بوصفها حقاً وواجباً لا شعاراً، ودور الثقافة في احترام المال العام، ودور الاقتصاد في ترسيخ قيمة العمل والإنتاج بدل عقلية الريع والوساطة، ودور الإعلام المسؤول وهو دور حاسم في أن يفضح بلا تحريض، ويحلل بلا تشهير، ويقترح بدائل بدل الاكتفاء بالشكوى. دولة تحمي الفرصة، وإنسان يعرف كيف يستثمرها.والعراق، في نهاية المطاف، لا يحتاج "ملاكاً" ولا "معجزة". يحتاج دولة تعيد هندسة الحوافز، تكافئ النزاهة وتعاقب الفساد وتفتح الطريق للكفاءة، ويحتاج مجتمعاً يرفع سقف مطالبه من "من يعطينا؟" إلى "كيف نحكم أنفسنا؟". غير أن هذه الخلاصة تبقى ناقصة إن لم تقل بحدها القاطع، العراق لا يحتاج مزيداً من الخطب عن "الوعي"، ولا مزيداً من اللجان عن "الإصلاح". العراق يحتاج جملة واحدة تترجم إلى فعل، من يسرق يحاسب، ومن يحمل السلاح خارج الدولة يجرد، ومن يعتدي على المال العام يقصى. وما دون ذلك ترف لغوي يلمع في الصحف ويذوب في أول ممر مظلم من ممرات الدوائر.لقد استهلكت حيلة لوم الإنسان لتبرئة الدولة، كما استهلكت حيلة "هيبة الدولة" لتبرير سحق الإنسان. والنتيجة أن المواطن صار يطلب منه أن يكون ملاكاً في سوق يعاقب الملائكة، والدولة تطلب منها أن تكون صارمة في نظام يكافئ المتنفذين. البلد لا ينهض بالتمني، بل بتغيير قواعد اللعبة، حين يصبح الفساد خطراً لا مهنة، وحين تصير الوظيفة خدمة لا غنيمة، وحين تستعاد الدولة كمعنى لا كواجهة.لهذا فالسؤال الحقيقي ليس، إصلاح الإنسان أم إصلاح الدولة؟ بل، متى تتوقف الدولة عن إنتاج الإنسان الفاسد، ومتى يتوقف المجتمع عن حماية الدولة الفاسدة؟ يومها فقط سيبدأ العراق أول إصلاحٍ صادق، إصلاح لا يتسول النزاهة من الضمائر، بل يفرضها بالقانون، ولا يستجدي الدولة من الشعارات، بل يبنيها بالعدالة.

 

المشـاهدات 24   تاريخ الإضافـة 22/12/2025   رقم المحتوى 69213
أضف تقييـم