الأربعاء 2025/12/24 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 13.95 مئويـة
نيوز بار
تداعيات المفارقة والترميز الفني في مجموعة (نبض الأزاميل)
تداعيات المفارقة والترميز الفني في مجموعة (نبض الأزاميل)
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

 د. سمير الخليل

       يتميز الخطاب القصصي في مجموعة (نبض الأزاميل) للقاص (ضاري الغضبان) بالقدرة الفنية على تقديم عوالم وبيئات مختلفة ومتعدّدة، والسعي إلى رصد والتقاط اللّحظة القصصية الحرجة من خلال تقديم شخصيّات إشكالية تعيش في نقطة متحركة ومضطربة ومأزومة، وبهذه العوالم المشحونة بالرغبات والأحلام والكوابيس يتصدّى القاص لمعترك الواقع الملتبس، وتداعيات الوجع الذي يكتشف الشخصيّات، ويؤطّر الأحداث والمفارقات والصراعات.

       إن السمات أو الظواهر الفنية التي تجلّت في المجموعة هي المزج الذي بين الواقع والخيال، والحقيقة والرمز والمفارقة والسخرية الخفية الدالة، إذ تتّسم النصوص بقدرة على البناء الفنّي، وتقديم الشخصيّات والأحداث بأسلوب فنّي دال وعميق يميل عبر الاستبطان والاستكناه الداخلي، ويبتعد عن التقريرية والمباشرة والجمل النمطيّة، ولا تكشف القصص عن مضامينها وثيماتها بسهولة ويسر حتى تأتي لحظة النهاية الدالّة لتقدّم لحظة التنوير، والكشف الكلي الذي يمثّل إلى حدٍّ ما شفرة القص وبناء الحبكة وقوّة الدلالة والترميز الذكي والإيحاء.

       تتّسم النصوص القصصية بوجود الحمولة الدلالية والنزعة الدرامية الرشيقة في بناء الحدث والمفارقة الدالّة، ويقترب من الاشتغال بالترميز والفانتازيا، وتقديم الواقع بشكل يثير اهتمام المتلقّي لبراعة اختيار اللّحظة الحرجة التي تتصف بالدراميّة والحدّة والتناقض، ونلحظ إشارات عابرة لكنّها تمتلك قوتها ودلالتها لإدانة الخراب والحرب والزيف.

       فالاشتباك مع ظواهر وأزمات وتداعيات الواقع الإشكالي يعبّر عن إدانة مضمرة وفضح لكلّ أشكال الاستلاب والنكوص والتأرجح، ويكشف أسلوب الكاتب في بناء الفكرة وتصاعد وتشابك الأحداث عن قدرة لاستدراج المتلقي وجذبه إلى الثيمة المركزيّة ولا يمنحه الكشف المبكّر بل يقود المسار بهدوء وبشيء من الغموض الجاذب والدال حتى يصل إلى ذروة المعنى والقصديّة وإحالات التجسيد القصصي وإشاراته الضمنيّة.

       واقترن البناء الفني الدقيق بوجود تضافر مع لغة قصصيّة قادرة على التعبير عن الهواجس والمقاصد التي تهيمن على الشخصيّات، وتدفعها إلى لحظة المواجهة، وتداعيات الكشف، إذ اتّسمت اللغة بالأداء التواصلي، والجملة المعبّرة من دون حذلقة أو افتعال، فالقصّة تتسم بالسير الفني إلى الدلالة أو الغاية المراد الاشتغال عليها، والكشف عن مكنوناتها وإحالاتها ورمزيتها.

       كما نلحظ التركيز على تقديم سرديات الأنسنة لاسيما النصوص التي تناولت الأبواق والمرايا، أو تمثال السياب وما تحمله هذه المقاربة من خلق رمزيّة وإيحاء وإحالة إلى أحداث تتسم بالعمق، ورصد المضمر والمسكوت عنه واليومي والمهمل، وتقديم النص مؤطّراً بالمفارقة التي تجسّد في عمقها تداعيات الصراع بكلّ أبعاده الاجتماعيّة والسايكولوجيّة والوجودية.

       ولعل سيميائية العنوان تميل إلى فكرة تشبّث الشخصيّات بالحياة ومقاومة الواقع كما تعبّر نصوص العتبات أو (المتعاليات النصيّة) التي وضعها الكاتب هي مستهل المجموعة، كقوله: "نبض الأزاميل اسم من اختياري، وهو مستل من سير الذين تفوّقوا على واقعهم، كما تفوقت الأزاميل وهي تنحت تماثيل تكاد تنبض بالحياة... من حوار لأحد شخصيات قصص هذه المجموعة..." (المجموعة: 5)، وقوله: "الذين يسعون بتلقائية وشغف فطري ويوشمون وجه الحياة ببصمات فارقة، لعمري إنهم فلاسفة وإن كانوا حفاة..." (المجموعة: 5)، وقوله: "الإنسان هو كيف ينتهي وليس كيف يبدأ..." (المجموعة: 5).

       تتناغم تلك العتبات أو (المتعاليات) مع المدلول الفكري لنصوص المجموعة، وتكاد تختزل فكرة الصراع داخلها ووجود هذه الشخصيّات بكل تناقضاتها وإشكالياتها، إذ تمثّل الوجود الذي يسعى للاكتمال لكنّه يصطدم بتداعيات وعوائق الظروف التي يفرزها الواقع الملتبس والمأزوم وعلى كلّ مستويات وأبعاد الحياة وتنوّع أشكال الصراع الضمني.

       تواجهنا قصّة (أساور) التي تعدّ أنموذجاً للمزاوجة بين الواقع والخيال كتجسيد فنّي لحالة الاضطراب الذهني الذي يعانيه الزوج وهو يناجي أو يتعالق مع زوجته أو طليقته بعد ذلك حين يغرق في أعماق الوهم ويقدّم صورة لصراعه النفسي بين التعلّق بها، والتعلّق بالأوهام، والذهاب لجلب الكنوز التي يخلفها سقوط المطر، يقول الراوي الشخصية: "لم يكن في أفق توقعي أن أتحسس الغيوم بيدي، حدث ذلك من دون تخطيط، كنتُ في سفرة مع بضعة أشخاص جميعهم معي ظرف غريب، حيث اكلّم أحد المجهولين عن وجود كنوز ممكن أن تظهر بعد سقوط المطر في التلال القصيّة، ولأننا مولعون بتصديق الأساطير، هرعنا مصدّقين غير عابئين بالنتائج كما هي العادة" (المجموعة: 7).

       وقد أدمن بطل القصّة هذه الأوهام بعد أن هجرته (أساور) زوجته بعد أن اكتشفت انفصاله عن الواقع على الرغم من أنها وحيدة، وليس لها أخ تلجأ إليه لأنّه قضى في آخر حرب عبثية لتلحقه الأم حزناً عليه، وهي إشارة وإن كانت عابرة فإنّها تدين قبح وبشاعة الحرب باستعارة عميقة الدلالة ومن دون الاستغراق بالتفاصيل المباشرة والتقريرية التي تسلب السياق دلالاته النفسية والإحالية .

       ولعلّ جمالية النّص وعمق تأثيره اقترن بفكرة أنّه بوح ذاتي مضطرب يدلي به البطل على شكل (تداع حر) وضمن أسلوب تدفق (تيار الوعي) والإحاطة السايكولوجية واضطراب الشخصيّة وصراعها بين الواقع والخيال، إذ تنطوي القصّة على تداعيات وتأمّلات في الواقع وفي درجة اللحظة الحرجة لتصوير الحياة والموت، والحرب والانفصال عن الحياة والواقع عبر تمثّلها لشخصيّة الزوجة (أساور).

       ونكتشف في نهاية القصّة أن (الزوج) الشخصيّة المركزية رهين المشفى، وتحاول (أساور) أن تنقذه وتسحبه بعيداً: "أكملت جرّي خارج المشفى، وحين تلفّت قرأت عبارة (مشفى معالجة الإدمان) فتشبثت بأساور بقوة وهي تقودني نحو بيتنا بينما كانت لفائف متّسخة تعبث بها الريح حول مكبّ النفايات تحاشيتها وركضت مسرعاً وأنا أجرّ أساور هذه المرّة..." (المجموعة: 14).

       فالقصّة على وفق هذه المعطيات تحمل دلالات عميقة ودالّة لإدانة الذات المتماهية مع الوهم ومع خيال الإدمان والضياع، وترمز شخصيّة (أساور) الزوجة بقوّة الحياة التي تسحب المدمن إلى مسارها بغية انقاذه من العبث والذوبان، والشرخ الذهني الذي يعانيه لاسيما فقدانه إدراك حدود الحقيقة والوهم.

       ولابدّ من الإشارة إلى أنَّ القصة لم تقدّم أفكاراً جاهزة ومباشرة أو مملّة بل قدّمت استعارة وصوراً ومشاهد لتجسّد هذه الثيمة الشائكة، وكان النص القصصي بؤرة تداعيات وصور واضطرابات في ذهن الشخصية (الزوج) إذ تكللّت بحضور النّسق السايكولوجي الذي تحوّل إلى دالّة على الضياع والتمزّق والانفصال عن الواقع الحقيقي، وتمثّل (أساور) نقطة الشروع نحو التخلّص من أوهام الإدمان والتشظّي.

       إنَّ مقاربتنا النقدية ستتناول نماذج متقدّمة من هذه المجموعة التي تنطوي على اشتغالات جمالية وفكريّة، وتتنوّع أجواؤها لاستقصاء الخراب والوجع بأسلوب التوغّل والتجسيد بعيداً عن الوصفية المباشرة، كما في قصّة (ناصية الريحان) التي ترتكز على عنوان مكاني يمثل مساحة تجتمع فيها بائعات الريحان اللاتي يتحولن إلى ساردات أو راويات يتناولن أخبار المجتمع والسوق ويتفاعلن مع الحدث الغرائبي الذي شغل المجتمع والسوق من أقصاه إلى أقصاه، وهو ينبئ عن ارتباط الشيخ (عبد التواب) مؤذّن الجامع بعلاقة مريبة وفيها شبهات التواصل المحرّم وعلاقة اللّذة مع الفتاة (توحه) ذات العلاقات والتجارب المتعدّدة مع الرجال بعد أن استحال جسدها إلى مرتع اللذّة وتحدّي التابو الاجتماعي .

       ويصبح هذا الخبر الصادم الذي يجسّد العلاقة المريبة والمثيرة بين (توحه) و(عبد التواب) ودلالة الدنس والتضاد بين المدنس والمقدّس، ويقوم المضمون أو الثيمة الصادمة بخلق مفارقة غرائبية تكشّف عن التناقض الذي ينطوي عليه الواقع المأزوم وينطلق السرد من وجهة نظر بائع التوابل الذي يتحوّل إلى سارد متماثل حكائياً بحسب تصنيف (جيرارد جينيت) أي السارد المشارك والمراقب للحدث الغرائبي، كما في المقطع السردي الآتي: "المتبضعة هي الأخرى قبل توجهها لي لشراء التوابل، ناقشت الأمر مع زبونتها في ناحية بيع الريحان بشكل علني.

  • هل من المعقول أن تحمل (توحه) سفاحا من إمام الجامع ؟!
  • معقول ونصف، فهي قد حملت من رهط من سكّان المدينة سابقاً..

بهذا ردّت بائعة الريحان العجوز على المتبضعة المصدومة، لكنّ صدمتي كانت أكبر لمعرفتي الشخصيّة بإمام الجامع، ذلك الرجل الهادئ المتحفّظ المعتّد بنفسه، والذي توارث عمله في المسجد عن المرحوم أبيه، بعد أن درس العلوم الدينيّة لعشر سنوات، كان الشيخ عبد التوّاب رجلاً مهاباً، ولم يهتزّ موقعه حتى بعد حكاية طلاقه من عبير..." (المجموعة: 40).

       ويظل هذا الحدث الغرائبي تتصاعد أصداؤه في المدينة، وتظلّ بائعات الريحان يجدن فيه الخبر الأكثر تداولاً وإثارة لاسيما وإنّ المؤذن عبد التواب يزداد تعلّقاً ببائعة الهوى (توحه) ويصفها بوصف ساحر لما تنطوي عليه من أنوثة طاغية، ووجد فيها ضالته ولم يأبه بمكانته وإرثه الديني، وبذلك تشتبك القصّة على مستوى الدلالة لتجسّد تداعيات الصراع وحجم التناقض والتضاد بين المعقول واللاّمعقول متمثّلاً بوجود الصراع الحاد بين المدّنس والمقدّس، لتقديم صورة للقيم المضادّة التي تصطدم بعادات وطقوس وعادات المجتمع، ويأتي الحدث الغرائبي الصادم ليكشف أنّ كسر (التابو) وتحدّي القيم السائدة يشكّل نقطة حرجة ومساحة قلقلة داخل المجتمع الذي يتخفّى تحت هذه القيم التي تخترق لتكشف الخواء الداخلي وأزمة القيم نفسها. وتتعمّق دلالة الموقف والأزمة الحادّة بكلمات الشيخ وهو يصف (توحه) ومفاتنها: "أية فتاة هذه التي رماها القدر لي، مرحة مختلفة، شبقة، مذهلة.. هي التي تبادر وتخلق أجواء للمتعة لم أكن أحلم بها.."(المجموعة: 46)، وعلى وفق أسلوب التنوّع في تناول الاستلاب والوجع والخراب .

       تبرز قصّة (مصير الأبواق) لتقدّم عالماً للخواء والاستهلاك ومصير الزيف من خلال قصّة تمزج بين الواقع والرمز، وتتّخذ من عالم الأبواق موضوعة لتوظيف الأشياء وتمرير الزيف والاستعراض والفساد، وهي تمجّد القبح، والأبواق يمكن أن تكون المعادل الرمزي للإنسان البراغماتي الذي يتحوّل إلى بوق لنشر الدعاية والكذب، وتمجيد القبح إذ تتحوّل هذه النزعة إلى مهنة للارتزاق، لكنّ جمالية القصّة وغرائبيتها وطاقتها الرمزية تكشف عن المصير البائس للأبواق نفسها حيث تتعرّض إلى الإهمال والصدأ، ولا تجد مكاناً يؤويها غير النفايات لأنها أصلاً تمجّد ما يشبه النفايات لتفرضه على واقع الحياة، والقصة تكشف عن توظيف تقنية (الأنسنة) للمزج بين الصورة الرمزية والصورة الإحالية، وتقدّم صورة للمسكوت عنه والغرائبي الذي يفضح ويكشف حجم التناقض وسقوط القيم المتناسلة، يقول الراوي عن الأبواق المؤنسنة السرد: "فتذكرت الأبواق رذاذ العفاط الذي ملأ ذاكرتها وقرّرت الركض إلى ماء نقي، كي تتخلّص من العار، إلاّ أنّها
-وبعد كل هذا الإهمال- حين لامست الماء النقي، انحدر عنها الصدأ وباتت مخرومة لا تصلح للتبويق، هكذا أهملت من جديد ولم يتذكرها أسيادها غير أنّها تخلّصت من وضعها المزري حين مرّ مصادفة جامع النفايات فجمعها وأضافها للخردوات" (المجموعة: 54-55).

       وبهذا الاشتغال الفكري والجمالي عبر تقديم المفارقة الساخرة تكون القصّة قد رصدت ظاهرة ترتبط بطبقة الزيف وأرباب التبويق الذين سيجدون نهايتهم البائسة من دون أن يهتم بهم أحد حتّى الذين أفادوا منهم لنشر الخراب والكذب والخداع..، ومن المؤكد أنّ القصّة حملت كثيراً من طاقة الترميز ودلالات الإحالة بين هذه المعدّات أو الجماد وبين صورة الإنسان الذي يتحوّل إلى بوق نحاسي، وانطلاقاً من هذه الصورة الإحالية تمكّنت القصّة من تقديم فكرة باهرة من خلال المزاوجة بين الحقيقة والرمز، والتجسيد والتجريد لكشف جانب من جوانب الزيف والخراب وتداعيات الوجع، والنهاية التي تتحكّم بالواقع، حيث تمثّل خلاصة العبرة للظواهر الشاذّة والمضادّة للتناغم الإنساني، وكينونة القيم الحقيقية بعيداً عن التهريج والتبويق ورسم ملامح الخداع الصاخب .

       وفي قصة (الهاجس) يستثمر مفارقة وجودية لا تخلو من مفارقة دالة يتوغل في سيرة الشخصية الرئيسة شخصيّة الجدّة (نسيمة) وهي تقترن بوجود النخلة التي تمثّل جزءاً من حياتها وبقائها على قيد التوق، لاسيما وإنّها تعرضت لموت زوجها فتخلخل وجودها وأصبحت توّاقة للبحث عن ذاتها وأحلامها التي ضاعت وهرمت، وقررّت الذهاب لزيارة قبر زوجها في محاولة لإيجاد بقاياها المتيبسة، ومرض المفاصل الذي ينخر بها، لكنّها سمعت اسم (مجيد) يتردّد هو الآخر في المقبرة حين يناديه ابنه (أمجد) فتنتبه للاسم وتصدم بوجود (مجيد) عشيق الصبا والشباب وقد جاء إلى المقبرة لزيارة زوجته الفقيدة فيلتقيان بعد فراق طويل وتجمعهما المقبرة بعد أن فرقتهما الحياة وأقدارها، يقول الراوي العليم: "ويقفان يسترجعان ما قبل نصف قرن مضى، حين تعاهدا على الحب والوفاء تحت نخلة باسقة، إذ خطّطا للاقتران بيد أن القدر والتقاليد قطفا حصاد العهود قبل مواسم الجني، لم يقولا شيئاً، بل غرقا معاً يتفحص كل منهما وجه الآخر، يطرقان معاً في تعمّق شفيف ونظرات ممزوجة بالود والعتب والترقّب.."(المجموعة:99). ويبقيان يكابدان الصراع والمفارقة تحت سطوة لحظة حرجة ومساحة قلقة ومتأرجحة، وهي المساحة المتوتّرة والمتناقضة التي يرصد بها الكاتب الواقع المأزوم في معظم قصصه الدالّة والمتوافرة على تحقيق البعد الجمالي والقصديّة الفكريّة للمعنى الكلي المتقدّم .

المشـاهدات 11   تاريخ الإضافـة 23/12/2025   رقم المحتوى 69258
أضف تقييـم