الأربعاء 2025/12/24 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
غائم
بغداد 12.95 مئويـة
نيوز بار
مازال القمر مضيئا
مازال القمر مضيئا
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

قصة: سعد كريم الاحمر- هولندا

كانت الشمس قد مالت نحو المغيب فوق الروابي الممتدة على الحدود، مخلفة مشهدا ساحرا من الالوان الدافئة، ومعلنة عن نهاية نهار صاخب وبداية ليل يزحف بهدوء. وسط هذه الاجواء، كان هيثم ، ذلك الجندي العراقي الذي لم يتجاوز العشرين من عمره، يقف خلف ساتر ترابي ، مأخوذا بذلك المشهد الآسر. لم يكن يعرف الكثير عن دهاليز السياسة أو عن الأسباب التي ادت الى اندلاع الحرب، كان يعرف فقط أن أمّه تنتظره، وأن اصوات الانفجارات صارت جزءًا من يومياته.

في ذلك المساء، أُبلغ هيثم بأنه سيكون ضمن قوة مهمتها نصب كمين في الأرض الحرام الفاصلة بين الجيشين العراقي والإيراني مكونة من تسعة جنود، ومخابر، وضابط صف… مهمتهم رصد أي تحركات معادية قد تنذر بهجوم وشيك، ليمنحوا قطعات الجيش العراقي فرصة الاستعداد لصده.

تحركت القوة تحت ضوء قمرٍ بدا وكأنه مصباح عملاق معلق في السماء لينير لهم الطريق. كان الصمت ثقيلاً… صمت يشبه هدنة غير معلنة. وبينما كان الجنود يتبادلون همسات خافتة لكسر وحشة الليل في المكان الذي اختبأوا فيه، كانت عين هيثم ترصد حركة غامضة بين شجيرات متناثرة على مسافة ليست بعيدة، فأسرع الى تنبيه رفاقه. لكن ضابط الصف قال له ساخرًا:
         - إنها الريح يا هيثم… أو ربما عقلك الخائف هو من خيل اليك ذلك.

لكن قلبه لم يطمئن بعد ان لاحظ حركة اخرى في نفس المكان، مما دفعه ذلك الى طلب السماح له  بالذهاب الى تلك الشجيرات ليستكشف حقيقة ما يجري، فوافق ضابط الصف على مضض، رغم قناعته بأن لا شيء هناك يستحق الاهتمام.

تسلل هيثم بحذر بين الشجيرات، قابضاً على بندقيته بقوة وانفاسه تتلاحق. وما إن وصل الى هناك، حتى لمح جنديا ايرانيا يبحث عن شيء ما في الارض. وبدون تردد، وجّه فوهة سلاحه خلف الرأس المنحني، وصاح بحزم :

  •  ارفع يديك، وإلا أطلقت النار!

تجمّد الجندي الايراني، ورفع يديه المرتعشتين نحو الاعلى، وقال بلغة عربية تكسرها لكنة أعجمية:

  • أرجوك.. لا تقتلني.. أنا انسان مسالم لا احمل سلاحا.

تسمّر هيثم، وسأله بحدة:

  • من أنت؟ وماذا تفعل هنا وحيداً... وكيف تعلمت اللغة العربية؟

أجاب الجندي الإيراني، وعيناه تلمعان بالدموع:

  • انا اسمي آزاد...كنت قد عملت لسنوات طويلة في احد فنادق مدينة كربلاء المقدسة، وصرت اتحدث العربية، ولم اترك هذا العمل الا حينما دعيت للخدمة العسكرية انا واخي الاصغر عند اندلاع هذه الحرب اللعينة .. وقبل اسبوع، شاركت وحدتي بهجوم فاشل على قطعاتكم اثناء تمتعي بأجازة في بيت اهلي بطهران. وما ان سمعت امي من المذياع بأنه قد وقع في قاطع الوحدة التي نخدم فيها انا واخي، حتى داهمتها نوبة قلبية كادت ان تنهي حياتها، فقطعت اجازتي والتحقت بوحدتي كي اعرف مصير اخي. فعلمت بأنه قد تم تسجيله مع اسماء المفقودين.  لذا صرت اتسلل ليلا خلسة الى الارض الحرام دون علم من احد، عسى ان اجده جريحا او اعثر على جثته ان كان قد قتل.
  • أنزل هيثم سلاحه قليلاً ، منبهرا بعمق الاخوّة التي يحملها هذا الجندي لاخيه، والذي خاطر بحياته في سبيل معرفة مصيره، وتذكّر أمهما التي تنتظر عودتهما بفارغ الصبر. عندها قال بصوت خافت، تزدحم فيه مشاعر لم يعرفها من قبل:
  • اسمعني يا آزاد… لقد وقع في ايدي قطعاتنا تسعة اسرى منكم في ذلك الهجوم الذي تتحدث عنه. ولانك لم تعثر على اثر لأخيك الاصغر هنا، فعلى الارجح بأنه واحد من اولئك الاسرى. لذا أقسم لك بالله، بأني سأتقصى عن الامر، وسأوصل اليك اخباره ان تبين لي بأنه من بينهم.

ثم  مد يده إلى جيبه، وأخرج منه قلماً وورقة صغيرة، وقال بهمس:

  • اكتب لي اسم اخيك ورقم هاتف بيتكم. فأنا لدي صديق مصري سيسافر قريباً الى القاهرة، سأطلب منه ان يتصل بكم من هناك ليطمئنكم عن حال اخيك، لاني لا استطيع القيام بذلك من العراق، خشية من خضوع هذه الاتصالات للرقابة من قبل السلطات العراقية.

كتب آزاد اسم اخيه ورقم هاتف بيته بيد مرتجفة، ثم صافح هيثم بامتنانٍ تخطّى حدود اللغة والحرب.

  • لن أنسى لك هذا ما حييت… فلو كان غيرك هو من اكتشف وجودي هنا، لقتلني او اسرني، ولتضاعفت الفجيعة على قلب امي.

فرد عليه هيثم، وهو يلتفت خلفه خوفاً من رفاقه:

  • عليك الآن أن تعود فوراً الى وحدتك، قبل أن يلمحك بقية افراد الكمين، وحينها سوف لن أستطيع حمايتك.

وهكذا اختفى آزاد بين الأشجار كطيف عابر، وبقي صدى كلماته يرنّ في أذن هيثم، الذي عاد إلى موقع الكمين، ليسأله ضابط الصف ساخرًا:
       - ماذا وجدت يا بطل؟

ابتسم هيثم وهو يتحسس الورقة في جيبه، وقال بهدوء:
     - لا شيء يا عريفي… مجرد ريح حرّكت غصون الشجر كما توقعت انت.

ثم رفع بصره نحو القمر الذي غمر الأرض الحرام بضوئه، فشعر بوعي جديد ينبت في داخله:
الحرب تفرّق البشر، نعم… لكن الإنسانية قادرة على جمعهم تحت سماء واحدة، مهما فرّقت بينهم الحدود.

المشـاهدات 28   تاريخ الإضافـة 23/12/2025   رقم المحتوى 69261
أضف تقييـم