السبت 2025/12/27 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
ضباب
بغداد 7.95 مئويـة
نيوز بار
أنا والثعلب
أنا والثعلب
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

محمد فيض خالد

مُذ هبطت على المكان ، وصُفرة موجعة تتَمشَّى بوجهه الشَّاحب لا تفارقه ،تحترق نفسه في أحيان، يتصاعد دخانها حين يلقاني، لا اعرف سببا وجيها ؛لم تكن العتبة الجديدة مجهولة، بل هي أرض مطروقة، فسنواتي التي قضيتها بالأوقاف تشفع لي، تتشابه التفاصيل ،وتتلاقى المعايير ، فشهادة ميلادك لابد وأن تخطها يد الدين ،الذي أصبح وسيلة مواصلات مضمونة ، يمكنها حملك بأمان ؛ واجتياز المخاطر ، هبط صاحبنا مع من هبط بتزكية أحدهم ، قضى سنوات طوال مُصحَّحا لمجلةٍ تصدر عن المؤسسة ، وذلك من صنوف العبث ،تطوع أحدهم فأخبره أوان سفره، أن القادم الجديد يتفجَّر موهبة ، كاتب لا يُشق له غبار، اثقلت كتاباته صفحات الأدب في الجرائد والمجلات المصرية والعربية ،ونجم أطعم المكتبة بمؤلفاته ، همسات الثعالب تنبئ عن عدمِ ارتياح ،يعانون جميعا ثقل الصبر على احتمالِ الصَّدمة ، خاصة حين قدَّمني لهم رئيس القطاع ، صَرحَ في رنةِ ارتياحٍ :" زميلكم الجديد ، هنا مكتبك " ،بهتوا في صمتٍ مُوحِش ،وكأنَّهم في مَأتمٍ ، اشعر وكأنني اسبح في بحر من العيون الملُتهبة ، أعلن أكثر من زميل بالمؤسسة على سبيل التَّفكه :" هذه الإدارة البقرة الحلوب ،والوصول إليها صعب ، كان الله في عونك " ، في هذا المكان تُقدّم القرابين سخية على المذبح ، أرخصها الدين والمروءة ، ينسلخ المرء عن قيمهِ لنيل الحظوة، وتثبيت مكانه  ، منذ يومي الأول اشعر بالغربةِ ،اغلقوا على أنفسهم في تكتمٍ مُحيّر، في مكتب جانبي كانت جلستي ، فلا تسمع إلا همسا ، يتهادى من خلف الأبواب ، حتى أولئك الذين ظننت فيهم الحكمة والرزانة ، بدوا أشد تطرفا في عداوتهم ، تبتسم الوجوه ابتسامة مجهدة ، لكن عيونهم لا تزال مُعقدة من الضيق ، ظنَّوا بيَّ شرا ، وحُقَّ لهم أن يظنوا ، حسبوا أنني عين الرجل ، أتى بي ليراقب حركتهم ،ويحسب أنفاسهم ،وفك طلاسمهم ،جو كئيب ، موبوء ، تَغشاه الخيانة من كلّ مكان ،كل شيء مُبالغٌ فيه ، حتى صلواتهم مزعومة ، تشعر وكأنك في سيركٍ صاخب ، كل لاعب يقدم نمرته بمهارة ،ما إن تنفض الفريضة ، حتى يتلاحق الاستغفار، يستدير كبيرهم ويشرع في إلقاء خاطرة مختصرة ، عن قيمةِ الخير، و أثر العطاء ،والتعاون على البر، تسقط رؤوسهم على صدورهم في تمثيلٍ سَاذج ،انظر إليهم في احتقارٍ، تداعبني الابتسامة ،فمهما ارتفعت قوى الإغراء بالديانة ، فمثلي عصي لا ينخدع.

بعد أسبوعٍ عَادَ " ناصر" من إجازته، مصري جنوبي ، فارع الطول ، نحيف البنيان، في هيئةٍ معتلة ، تكسو وجهه الضامر لحية مزيفة مهملة ، اعرفها جيدا ، وضعها ليختبئ كغيره من خلفها، جواز مرور يُمكِّن صاحبه من البقاء، و يكتب له السلامة ،عرفت أن بيده مقاليد الأمور، بحكم الأقدمية، يَتصَّرف كيفما شاء، أرقام العملاء، الجهات المتعاونة ، سهلت له أن يصبح نافذا لدى الكبار ، ساعدت طباعه الشخصية ، وادعائه المعرفة أن يصبح نجما ، سَلَّمت عليه ، ارتعشت عيناه أسفل نظارة عريضة ، هرش ذقنه في ارتجاف عفوي، تحرك شاربه الكث الذي اندسَّت فيه أنف مُقرف ،نهجت أنفاسه  متلاحقة في إعياٍء ،ليقول في خُبثِ ثعلبٍ ماكر:" لقد حصلت على مؤهلي الجامعي من محافظتكم "، سكت قليلا ، ليغيم وجهه في ذُهولٍ مُوجع ، ظلَّت عيناه مبهورتان لا اعرف سببا لذلك ، غير القلق الممرض، ما إن يقترب من بابِ المكتب حتى يعود أدراجه ،وكأنَّما يشد إلى سرٍ خطير، تركته يتقلَّب في نيرانهِ ، لازمت مقعدي لا أبرحه إلا لسبب ،يتابعني بنظراتٍ هزيلة ،يَمطَّ عنقه في ارتياب ،وكأننّي اهيأ لقبضِ روحه ، يزعجه أن اكتشفت زوره وبهتانه ،في حديثنا العادي يُطالعني بعينين متوسلتين ،ودمعة تكاد تقفز منهما ،بدأت اشعر بالشَّفقةِ تجاهه ،أكاد أن اصرخ في وجهه :" حتى وإن كنت ضحل المعرفة ، فالأمر سهل يا صديقي ، فحظوظ الدنيا بيد الله " ، قلت مواسيا ذاتَ صَباح :" جميعنا يكمل نقص أخيه ، عملنا الخير، وتنافسنا محمود " ، من بعدهِ شعرت بالقَلقِ يشتد به ،يحتويه ليغرقه ،اكره فيه نظرات الثعلب ، تلك المحشوة بالخوف ، تتراءى في وجهه بوادر الفضيحة ، لكنه يفشل في اخفائها ،على مدار عامين كاملين لم اقف له على تعبيرٍ لغوي شيق، جميعها جمل ركيكة حشا بها المحررات الرسمية ، في سَخفٍ لا يليق بتاريخ المؤسسة العريق ، كلمات استهجنتها قريحتي ومجَّها ذوقي ، أقول لنفسي مستغربا :" كيف لشخص تصدى طوال تلك السنوات للكتابة أن يصدر عنه مثل هذا الخلط ، لكنها حظوظ الدنيا وأقدارها " .

مع الأيام أمن جَانبي ، فتحوَّل خوفه لمَكيدةٍ ، نصحني بعض الزملاء تجاهل سخافاته ، فهو خبير في ضُروبِ الوشاية، وتدبير المؤامرات ،طُلبِنا لاجتماعٍ طارئ ، علينا إعداد ورقة بموضوعٍ معين ،ازداد انزعاجه ، ابتلع ريقه بصعوبةٍ ، في الخارج قال بابتسامٍة يواري بها قلقه :" من المستحين أن تكتبها أنت ؛حتى لا نضيع وقتنا " ، في كلِّ عملٍ مشترك تتضاعف كراهيته لي ، ويَتفجَّر بداخلهِ بركان الغضب ، عندما يتراءى فشله.

عدت من إجازتي السنوية ، في مكتبهِ اطلعني " ريحان " على ما  طُبِخَ خلفَ الكواليس ، لقد بذلَ كلّ حيلةٍ لإقناع مدير الإدارة ؛ لحبسي في السرداب ، بدعوى أنه المكان الأمثل ، فالمبدعين أمثالي يلزمهم الهدوء ، سطعت الفكرة في عقولِ من حوله ، ضحكت متأسيا ، لماذا يقدم القوم على مثل هذه الحيلِ ، وهل يَليق بمؤسسٍة عريقة أن تصبح أخلاق البعض فيها بهذه التَّدني ،كيف للموهبةِ أن تصبح جناية ، تهمة ، في بيئةٍ مُحرضٍة تعيسة ، لا تعرف غير الغدر والخيانة ، وصناعة الحلفاء ، لم تشفع نوايايّ الحسنة ، بِتّ ومع كلِّ صَباٍح اعصر على نفسي مائة ليمونة ؛ لكن شيئا لم يَتغَّير، فوجودي يظهر معايبه ، وهذا كَافٍ للخلاص ،ما أقبحَ الإنسان حينَ استسلامه للغربةِ وأمراضها ، ما أقسى تلذذه بها ، هنا تتعانق جميع المتناقضات ، تشتبك في وقاحةٍ ، تتحول القيم المثلى لرذائل ، الدين ركوبة توصل لكلِّ غاية ،مرات اشفق على " ناصر" ، لم اقصد تعريته ،وإظهار سوءاته كما تَوهَّم ، مسكينٌ ،ستظل تُطارده كوابيسه ، تلعن عجزه ، حتى وإن فارقته.

المشـاهدات 16   تاريخ الإضافـة 27/12/2025   رقم المحتوى 69330
أضف تقييـم