النـص : ترتبط التجارة الخارجية بشكل وثيق بقوة الاقتصاد وضعفه، بمعنى إن آثارها تكون مُستمدة من الاقتصاد وكلما يكون الاقتصاد قوياً ستكون آثار التجارة الخارجية إيجابية، وكلما يكون الاقتصاد ضعيفاً ستكون آثار التجارة الخارجية سلبية.حيث تعد التجارة الخارجية مؤشراً جوهريا للقدرة الإنتاجية التنافسية ومعياراً لتطور البلدان وتوازنها، والتي من خلالها تطل على العالم الخارجي فيتم التفاعل بين محيطين أو أكثر سواء كان إقليمي أم دولي، ويرتبط هذا المؤشر بالإمكانات الإنتاجية المتاحة وقدرة البلد على التصدير والاستيراد وانعكاس ذلك على رصيده من العمالة وما لذلك من اثأر على الميزان التجاري.ويلاحظ إتباع التجارة الخارجية في العراق سياسة عدم التمييز أو الباب المفتوح على مصراعيه في ظل انفتاح اقتصادي غير مدروس، رافقها ارتفاع العائدات من تصدير النفط الخام والمواد الأولية، وتلك أسهمت في نشوء نمط حياة استهلاكية جديدة غادر فيها الفرد ظاهرة الادخار وتوجه نحو الصرف والإسراف الاستهلاكي، وتحولت السوق المحلية إلى سوق لتصريف شتى أنواع العالمات التجارية التي ال تنطبق عليها مواصفات نظام الجودة العالمي ISO ))، واستشرت فيها ظاهر ة الغش التجاري دون وجود قانون فاعل ينظم العالقة بين المنتج والمستهلك ويوفر الحماية للمستهلك ان وقوع التجارة الخارجية بما يمكّن تسميتهُ بـ (فخ الاستيرادات)، الذي تهيّأت لهُ الظروف والعوامل الساندة التي جعلت من الاقتصاد العراقي، اقتصاداً ريعياً بامتياز، لم تُشكّل فيه مساهمة قطاع الصناعة التحويلية سوى نسبة 1,5% والقطاع الزراعي نحو 5% من الناتج المحلي الاجمالي، مما يحتم توفير الدعم اللازم للقطاع الخاص وتفعيل شراكتهُ مع الدولة لتطوير المنتجات المحلية وتعزيز قدرتها التنافسية، والتحوّل نحو التصدير للأسواق الخارجية بما يُسهم في بناء علاقات تجارية متكافئة مع دول المنطقة تقوم على أساس الاستيراد والتصدير من المنتجات الصناعية والزراعية، وتعديل المسار الخاطئ للتجارة الخارجية للعراق التي ما تزال معتمدةً على الاستيرادات من السلع والمواد المختلفة مقابل صادرات من النفط الخام التي تزيد نسبتُها عن 99% من اجمالي الصادرات العراقية .وعند قراءة ممعنة للتجارة الخارجية يظهر بوضوح هيمنة الصادرات النفطية على النشاط التصديري، فقد تجاوزت الصادرات النفطية 98% من مجموع الصادرات، وتراوحت باقي الصادرات بين 1% و2% من مجموع الصادرات مما يعني غياب شبه كامل لهذا النشاط، وبالمقابل تركز الاستيراد على السلع الاستهلاكية وغياب السلع الإنتاجية ومستلزمات الإنتاج، ويؤشر ذلك غياب الاستثمار المحلي والأجنبي المباشر في العراق فلم يؤشر تدفقا داخلا ولا رصيدا متراكما للاستثمار الأجنبي المباشر . إن الوقوف على حقيقة التجارة الخارجية يظهر أمرا بالغ الخطورة مضمونه الاعتماد كليَّا على الإيرادات النفطية، وتكمن وراء ذلك دلالات اقتصادية عميقة أهمها إن الاقتصاد العراقي بات دالة لسوق النفط، وهذا ما انعكس فعلا منذ منتصف 2014 حالما انخفضت أسعار النفط عندها دخل العراق في نفق الأزمة المالية، كذلك عند تطبيق مؤشر هرفندل وهيرشمان على التصدير يتبين أنه في ظل غياب أية صادرات ضمن هيكل الصادرات العراقية وهيمنة النفط بوصفه السلعة الرئيسية المصدرة فالنتيجة التي يمكن الخروج منها للمؤشر ستكون أقرب إلى الواحد الصحيح لتعني غياب التنويع بالكامل في الصادرات، فغياب استراتيجية التنويع الاقتصادي سواء في الإنتاج أو التجارة الخارجية وغياب الاستثمار الأجنبي المباشر يقف وراءها العديد من الأسباب السياسية والأمنية والاقتصادية والتي عجزت الحكومة عن معالجتها. ولما كانت أسعار النفط دالة لمتغيرات سوقية وتذبذبات يومية، وقد تكون تغيرات سنوية أو دورات سوقية هذا يعني تذبذب الإيرادات وتقلبها في كل الآجال القصيرة والمتوسطة والطويلة مما يعني بأن العراق سيكون أمام حالتين: الحالة الأولى إيرادات متذبذبة والتزامات ومستحقات ثابتة فيقود لعجز في الموازنة، والحالة الثانية تراكم العجز ليقود لمشكلة سيولة تتمثل بعدم قدرة العراق على سداد التزاماته ومستحقاته يوما بيوم وشهر بشهر وسنة بسنة وعند تحليل الميزان التجاري في العراق بمعزل عن الصادرات النفطية نشخص حجم الاخطار التي تهدد عملية التنمية في حال انخفاض أسعار النفط أو حتى نضوبه مما يشير الى اختلال هيكلي في قطاعات الإنتاج وعن قصور الطاقات الإنتاجية عن تلبية حاجات المجتمع وتبعية للسوق الخارجية واعتماد على تصدير النفط الخام واستيراد المواد والسلع الجاهزة .إن أُحادية الهيكل السلعي للصادرات مقابل تعدد الهيكل السلعي للاستيرادات جعل الاقتصاد العراقي يتأثر بالأزمات المالية العالمية تأثراً شديداً ينعكس سلباً على كافة المؤشرات والمتغيرات الاقتصادية، إن للسياسات الحكومية المتبعة منذ عام 2017, والمتضمنة ترشيد الإنفاق الحكومي ودعم الزراعة وتحقيق الاكتفاء الذاتي لمحصول الحنطة ومنع استيرادها, كان لها أثراً إيجابياً بالغ الأَهمية بتحقيق العراق أَعلى فائضاً في الميزان التجاري.يذكر أن الميزان التجاري مع النفط لا يظهر عجزا تجاريا في التجارة الخارجية، ولكن الميزان التجاري بدون النفط سيكون يعاني من عجز دائم منذ 1950 ولغاية الآن، وهذا العجز في الميزان التجاري ناتج عن اعتماد الاقتصاد العراقي على قطاع النفط وترك بقية القطاعات الاقتصادية متخلفة ولا تستطيع أن تزيل هذا العجز .ان قطاع التصدير والذي يعد ابرز قطاعات الاقتصاد العراقي، والذي يعتمد بنحٍو أساس على تصدير النفط الخام والمواد الأولية، خاضع للظروف السائدة في السوق العالمية، وبذلك فان معدل نمو الاقتصاد العراقي يرتبط بهذه الظروف.علماً أن هيكل الصادرات السلعية في العراق يتسم بكونه هيكلاً مستقراً إذ اعتمد بنحٍو أساس على تصدير الوقود المعدني ) النفط الخام والمنتجات النفطية والكبريت والفوسفات( حيث شكلت فيه نسبة صادرات الوقود المعدني نحو 99% وما تبقى منها عبارة عن مواد غذائية ومشروبات ومواد خام وبعض السلع الصناعية وغيرها ، بعبارة أخرى يواجه العراق معضلة تركز صادراته السلعية ، إذ يعتمد بنحو يشير إلى أن الاقتصاد كبير على تصدير الوقود المعدني دون السلع الأخرى ، وتلك النسب ربما ت العراقي مصاب بمضاعفات المرض الهولندي (Dutch Disease).وبالاستناد إلى مؤشر تنوع الصادرات (Diversification Index)الذي يقيس انحراف حصة صادرات السلع الرئيسة لدولة معينة في إجمالي صادراتها عن حصة الصادرات الوطنية لصادرات العراق )إلى (0.876) في عام 2020 ، مما يدل على تباعد هيكل صادرات العراق عن هيكل الصادرات العالمية . وينطبق الأمر نفسه على مؤشر التركز (Concentration Index ) الذي يقيس مستوى التركز السوقي لحصة الدولة من الصادرات (أو الواردات) العالمية في سلعة أو مجموعة سلعية محددة أو تنوعها بين أكثر من سلعة ومجموعة سلعية ، وتتراوح درجة المؤشر ما بين (0) و (1) تشير القيم الدنيا للمؤشر إلى درجات تركز اقل لكل من الصاد ارت أو الواردات ، فيما تشير القيم الأعلى إلى درجات تركز اكبر ، إذ تبين ارتفاع (أو تدهور) قيمة هذا المؤشر لصادرات العراق الى إلى (0.972) )وهو أعلى بكثير من المتوسط العالمي الذي يبلغ (0.075) ويعبر عن درجة تركز عالية للصادرات ، ولعل العراق ال يشابه حتى نظرائه من الدول العربية ، فدرجة التركز السلعي للصادرات في مصر لم تتجاوز (0.133) ويعبر ذلك عن ضعف القاعدة الإنتاجية في العراق وعدم القدرة على استثمار المواد الخام وتصنيعها ثم الخروج بها إلى الأسواق العالمية ، وكذلك خضوع اقتصاده لأخطار التقلبات السريعة في أسواق النفط العالمية ، بالمقابل يعد العراق اقل الدول تنويعاً لصادراته حيث أدى التخلي عن المزارع والمصانع خلال سنوات الصراع بعد 2003 إلى إضعاف القدرة الإنتاجية للعراق بشكل كبير. ومما يزيد الوضع تعقيداً على الحدود، أن يحتفظ العراق بحكم الواقع بنظامين كمركيين، أحدهما في اقليم كردستان والآخر يغطي بقية البلاد. وتختلف جداول التعريفة والإجراءات الحدودية بين المنطقتين. وقد بلغ الأمر أن تكون هناك نقاط تفتيش داخلية على الطرق السريعة مما أدى إلى تثبيط حركة الشاحنات بين المنطقتين. واستناداً على ما تقدم واجه الاقتصاد العراقي انكماشا بواقع 12 بالمئة خلال العام 2020، كأكثر أعضاء "أوبك" تأثرا بجائحة فيروس كورونا (كوفيد-19)، وصدمة أسعار النفط،، ووفقا لتوقعات صندوق النقد الدولي بعدما كشفت عنه جائحة كورونا وصدمة أسعار النفط تبين مقدار ما خسره العراقيون في تعاملاتهم التجارية وما ترتب عليه من تدهور في كافة مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فالنظام التعليمي الذي كان تصنيفه في وقت من الأوقات قريباً من القمة بين أقرانه في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بات الآن قريباً من القعر، ومعدل المشاركة في القوى العاملة في العراق يتعثَّر عند مستوى 42%، فضلاً عن تسجيل العراق أحد أدنى معدلات مشاركة النساء في القوى العاملة في العالم. حيث يواجه العراق الآن تدني مستويات رأس المال البشري، وتدهور مناخ الأعمال، وأحد أعلى معدلات الفقر بين الشريحة العليا من البلدان متوسطة الدخل. كذلك جاء في المذكرة الاقتصادية الجديدة للعراق التي أصدرها البنك الدولي بعنوان " النهوض من واقع الهشاشة" والتي تبحث أسباب عدم نجاح العراق في الإفلات من شراك الهشاشة. كما تشرح المذكرة بالتفصيل كيف يمكن للعراق تحويل الأزمات إلى فرص، وتنويع نشاطه الاقتصادي بعيداً عن قطاع النفط، وتحقيق نمو مستدام في المستقبل. إلا أن التقرير الجديد يُشدِّد على أن ذلك سيتطلَّب الإصرار والمثابرة، وأن العراق سيواجه قدراً كبيراً من عدم اليقين وهو يسعى إلى التغلُّب على تحدياته التي طال أمدها، وتغيير الوضع القائم. وبين بدوره ساروج كومار جها، المدير الإقليمي لدائرة المشرق في البنك الدولي: "إن تنويع النشاط الاقتصادي من خلال الإصلاح وتطوير القطاع الخاص أمر بالغ الأهمية للحد من التحديات المتعاقبة التي يواجهها العراق. وعلى الرغم من التحديات السياسية والاقتصادية التي يواجهها العراق في الوقت الراهن، ثمة ثلاثة مجالات للتركيز عليها يمكن أن تساعد على تحقيق تنويع النشاط الاقتصادي، والنمو، والاستقرار: الأولى، أن الحفاظ على السلام يمكن أن يكون في حد ذاته مُحرِّكا قويا للنمو. كان متوسط نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي في العراق في عام 2018 أقل بمقدار الخمس عن المستوى الذي كان من الممكن تحقيقه لولا الصراع الذي بدأ في عام 2014، وذلك في حين كان إجمالي الناتج المحلي للقطاع غير النفطي أقل بمقدار الثلث. الثاني، استغلال الإمكانيات التصديرية للعراق للمساعدة في تنويع النشاط الاقتصادي بعيدا عن إنتاج النفط، والاتجاه نحو التجارة والتكامل. ويتمتع العراق بموقع جغرافي يؤهله أن يكون مركزا إقليميا للخدمات اللوجستية، والثالث، النهوض بالقطاع الزراعي في العراق ليصبح ركيزةً أساسية من ركائز اقتصاد أكثر تنوعا يقوده القطاع الخاص، وتبنِّي أحدث التقنيات لتعظيم قدراته التنافسية. فضلاً عن ما ذكر يجب تحديث الكمارك العراقية لتعزيز نزاهة الخدمة والمهنية، وتبني الممارسات المثلى في سياسات تيسير التجارة من خلال اتباع نهج الحكومة الواحدة وتنسيق ومواءمة السياسات بين جميع دوائر التفتيش على الحدود، فضلاً عن الحاجة الواضحة لتحسين مرافق إدارة الحدود، مع تبسيط ورقمنه عمليات الإجراءات التجارية من خلال الاستخدام المناسب لتكنولوجيا التجارة، ويمكن للتقنيات الحديثة لإدارة المخاطر أن تجعل عمليات تفتيش البضائع أكثر انتقائية وتسرّع التجارة على الحدود، وتمثل الجهود الأخيرة التي بذلتها الحكومة لإعادة بسط سيطرة الدولة على المعابر الحدودية، وتقليص دور المجموعات المسلحة علامة واعدة. وينبغي ان نشير الى جانب ما تناولناه الى أهمية تفعيل التجارة الخارجية الزراعية والتي تأتي من أن الزراعة تعد القطاع الرئيس في معظم اقتصاديات الدول النامية وخصوصا غير النفطية، حيث تظهر إحصائيات منظمة التجارة العالمية إن الزراعة تمثل أكثر من ثلث عائدات التصدير لحوالي خمسين دولة نامية.
|