الجمعة 2024/12/27 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
غائم
بغداد 17.95 مئويـة
نيوز بار
إكزوتيكا.. الغرابة والاغتراب والرغبة
إكزوتيكا.. الغرابة والاغتراب والرغبة
فن
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

محمد فاروق

 

من الصعب تلخيص حبكة فيلم إكزوتيكا Exotica (1994) للمخرج الكندي من أصل مصري، أتوم إيجويان، دون أن تبدو فوضى عارمة من الشخصيات والثيمات، أو شبكة معقدة على نحوٍ مبالغ فيه من الشخوص والعلاقات، فهي تدور حول محصّل الضرائب المكتئب فرانسيس الّذي يرتاد كل ليلة ناديًا ليليًا يدعى إكزوتيكا ليزور راقصته المفضّلة كريستينا، الفتاة الّتي تؤدي عرض إغراء راقص في هيئة طالبة مدرسة ثانوية، نعرف أنّها كانت في علاقة مع المقدّم الصوتي للنادي إريك والّذي لا يزال يشعر بالغيرة نحوها، ولكنّه في علاقة من نوعٍ ما مع مالكة النادي زوي، والّتي بدورها أيضًا في علاقة من نوعٍ ما مع كريستينا نفسها.يقتحم فرانسيس فيما بعد حياة توماس، مالك محل حيوانات أليفة يمارس عمليات تهريب لبيض ببغاوات نادرة، ويقضي ليله في البحث عن عشيق في مسرح الأوبرا.كما يبدو هي شبكة معقّدة تسير في اتجاهات عدّة، كما أنّها «غريبة»، وتبرز تلك الغرابة إذا وضعنا شخصيات إكزوتيكا جنبًا إلى جنب مع بقية شخصيات أفلام المخرج الكندي آتوم إجويان الأخرى، فهي بين مقيّم أضرار في شركة تأمين، وعضوة في هيئة رقابة سينمائية (الضابط The Adjuster 1991) وممثل صامت (الأجزاء المتكلمة Speaking Parts 1989) ومصوّر كنائس (رُزنامة Calendar 1993).إنها شخصيات غريبة على نحو أننا لا نلقاها كل يوم، فهي تنزوي في أركان غير مألوفة، وهي محددة بشكلٍ موغل في التفاصيل، غير أن هذا لا يعني أنها تحتوي في ذاتها على عنصر الخطر أو الإزعاج أو الرعب، وإنما هي فقط «غريبة».يمكننا التمييز بين فصيلين من الغرابة هما الغريب أو الغرائبي exotic والخارق للطبيعة uncanny فالثاني هو الذي يشتمل على عنصر الخوف، غير أنه مألوف بمعنًى ما، فهو يشمل حكايا الغيلان والساحرات ومصاصي الدماء، أي قصص خيالية تنبع من داخل العقل البشري وباتت معروفة ومألوفة (على النقيض من الغرابة) عبر العقود، كما يحتل ذاك الخارق قطاعًا عريضًا من التراث الأدبي والتقليد السينمائي، كما بزغ بشدة في السينما التعبيرية الألمانية في عشرينيات القرن العشرين.أما المصطلح الأول الذي يتبناه عنوان الفيلم- كما هو واضح- فهو لا يحوي في طياته معاني الخوف أو الإزعاج، وإنما هو فقط غير مألوف، كما أنه لا ينبع من الداخل، فمثل كل كلمة تبدأ بالبادئة exo- يشير إلى علاقة وطيدة مع الخارج، أو الأجنبي، أو الغريب عنا، فمثلًا في عالم اقتناء الحيوانات الأليفة باتت الحيوانات الأليفة غير المعتادة، أي كل ما هو دون الكلاب والقطط، تعرف بأنها حيوانات غريبة exotic animals باعتبارها حيوانات خارجة عن بيئتنا، وهي بالضبط الحيوانات التي نراها في متجر توماس. وهكذا فإن شخصيات إجويان ليست خارقة أو مخيفة بأي شكل من الأشكال، ففرانسيس ليس كاليجاري وإريك ليس فرانكنشتاين، ومع ذلك فهي تبقى غريبة بمعنى أنها ليست من نقابلها في حياتنا اليومية، أو نصادفها في طرقاتنا بشكل دوري.إلى جانب الغرابة، تعاني شخصيات إجويان اغترابًا ملحوظًا يمكننا أن نلمسه بسهولة في شخصيات مثل فيليشيا في فيلم إيجويان «رحلة فيليشيا» Felicia’s Journey (1999)، أو شخصية المصوّر التي أداها أتوم إجويان نفسه في فيلم «رُزنامة» Calendar (1993)، لأنها شخصيات ترحل بعيدًا وتصبح مغتربة أفقيًا، أي بالمعنى الجغرافي، وهي سمة يمكن تفهمها بالنظر إلى آتوم إجويان كمخرج كندي من أصول أرمينية مصرية، ولكن يصعب لمسها في الشخصيات التي يغيب عنها الشق الجغرافي أو الأفقي، فنحتاج عندها إلى التعمق في الشخصية رأسيًا لنتمكن من رصد منبت هذا الاغتراب.يبدأ الفيلم بعبارة «يجب أن تسأل نفسك ما الذي دفع المرء لهذه النقطة؟ ما الذي نراه في وجهه وتصرفاته قد أتى به إلى هنا؟» يتضح بعد تجلي المشهد على الشاشة أن قائلها هو مدير جمركي، يخاطب بها أحد مرؤوسيه معلمًا إياه كيفية النفوذ إلى بواطن من يقفون أمامه، لكن اختيار تلك العبارة لاستهلال الفيلم مع تأخير ظهور المشهد لما بعد استنطاق العبارة كاملةً يدفعانا إلى تناولها بقدرٍ من الإطلاقية للتعبير عن شخصيات الفيلم، وربما إلى قطاع كبير من شخصيات إجويان بصفة عامة.تدور شخصيات «إكزوتيكا» في حلقة لا تنتهي، إنهم يعيدون ذات الأمور مرارًا وتكرارًا، توماس يلعب لعبة التذاكر كل ليلة بغرض البحث عن عشيق، في حين يلجأ فرانسيس إلى ملهى إكزوتيكا حيث تؤدي كريستينا نفس العرض ويكرر إريك ذات التعليق الصوتي، إنهم مدفوعون بتأثيرٍ من ماضيهم، تأثير «دفعهم إلى هذه النقطة»، تأثير «نراه في أوجههم وتصرفاتهم قد أتى بهم إلى هنا».يعبّر الفيلم عن الاغتراب لونيًا باستخدام اللون الأخضر، وهو اللون المعروف بارتباطه بالنماء والخير، لينزعه إجويان هنا من هذا النسق، فيصير اللون في حد ذاته مغتربًا في كل تجلياته على الشاشة، فالنباتات الخضراء الّتي تصحب تتر البداية ليست النباتات المعتادة المعبّرة عن النمو والازدهار، وإنما هي شبكة من النباتات الغريبة المتسلقة، الّتي لا تعبر إلا عن الالتصاق بالمصير أو خروج الأمور عن السيطرة، والسوائل الخضراء في متجر توماس ما هي إلا هُلام يحجب الحيوانات عن النظر، فتظهر من ورائها أشباحًا وظلالًا، فالحيوانات الإكزوتيك هي بدورها اغتربت عن بيئتها الأصلية حين صيدت وصُدّرت أو هُرّبت إلى كندا.اللون الأخضر بمختلف الدرجات هو اللون الغالب على الفيلم ككل، بداية من تترات البداية المعروضة بخطٍّ على درجة من الخَضار وفي خلفيته نباتات خضراء، إلى حوائط وجدران نادي إكزوتيكا، وإلى الببغاوات الموجودة في النادي الليلي وعند هارولد والد تريسي جليسة الأطفال الّتي يزورها فرانسيس. ودرجات الأخضر في الفيلم تتسم بشيءٍ من القتامة أو الفساد أو التعفّن، بعيدةً كل البعد عن الجنة الّتي تتصوّر في الذهن فور التطرق إلى اللون الأخضر، ولأن الأخضر مغتربٌ في حد ذاته فلا بد له هو الآخر من ماضِ جلبه إلى هنا مثل سائر شخصيات الفيلم.هذا بالضبط ما نراه في مشهد الفلاش باك الّذي يقطّعه شريط الفيلم إلى مقاطع عدة تُقدَّم على دفعات عبر مدة العرض، إنه مشهد يعبر عن وقت كانت فيه الشمس مشرقة، وكان الأخضر لا يزال معبرًا عن الجنة، نرى تلّة مخضرة، يهبط منحدرها بتناغمٍ وهوادة أناسٌ يتعاونون ويتشاركون في أمرٍ ما، يتعرّف إريك بكريستينا هنالك أول مرة، نراهما في هيئة مختلفة عن هيئتهما الإكزوتيكية الّتي قدّمها لنا الفيلم، فوقتئذ كانا لا يزالان يحملان قبسًا من البراءة.لمفارقة المذهلة الّتي تؤطر هذا المشهد الفردوسي العذب والفريد وسط أحداث الفيلم تبرز حينما يتضح لنا أنّه في حقيقته مشهد بحث عن جثة مفقودة.يخبر إريك وقتها كريستينا بأنّه يتطلّع إلى بنية أو أساس structure، لأنه ليس راضيًا عن حياته الّتي تتساقط فيها أيامه دون أن يحقق شيئًا يُذكر، نبصر إرهاصات عصر إكزوتيكا مع هذه العبارة، وفي مونتاج بديع يخلط إجويان الفلاش باك العذب بواقع إكزوتيكا، التلة الخضراء والشمس المشرقة بغرف ذات جدران عكرة ومصباح صغير يعبث به إريك بشكل متقطّع، نقرات البيانو النقيّة في الفلاش باك بموسيقى إكزوتيكا الّتي تنذر باغتراب الروح، ويبزغ الفارق جليًا كذلك بين نسختي إريك وكريستينا القديمتين والحديثتين، إذ يتلاشى قبس البراءة لينتصبا في العراء خيالين داكنين، يتطاير بينهما مكان الأُلفة والكلام شررٌ من النظرات والصمت التام. لقد وجد إريك لنفسه ولكريستينا الأساس أو النظام الّذي كان يرغب في إيجاده، نظامًا لا يُخشى فيه تساقط أيام الزمن لأنّه لا يستمد أي قيمة من الزمن، فهو منغلق على نفسه وأعضائه الّذين يداومون على تكرار كل ما يفعلونه.كما عبّر الفيلم عن الاغتراب بالصورة نجده يعبّر عنه صوتيًا كذلك، بدءًا من موسيقى ميشيل دانا التصويرية (سيتحصل على الأوسكار لاحقًا عن فيلم حياة باي) الّتي تمزج آلات شرقية مثل العود والفلوت الأرميني بالآلات الغربية المعهودة في المجتمع الكندي، كما لا يمكن إنكار دور الأصوات التمثيلية والغنائية، انطلاقًا من أغنية ليونارد كوهين الّتي تؤدي عليها كريستينا عرضها الراقص في كوريوجرافيا جامدة وباهتة، تلائم كلمات الأغنية وطريقة إلقائها.

 

 

المشـاهدات 318   تاريخ الإضافـة 11/02/2024   رقم المحتوى 39439
أضف تقييـم