الجمعة 2024/10/18 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 27.95 مئويـة
تناصّات خطاب الآخر وتجليات (الهايكو)
تناصّات خطاب الآخر وتجليات (الهايكو)
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

د. سمير الخليل

يتمركز الخطاب الشعري في مجموعة (هايكو ونصوص شعرية) للشاعر عادل غضبان الناصري الصادرة عن (اتحاد الأدباء – بغداد، 2022) حول رؤيتين الأولى: تجسّدت في مجموعة من النصوص التي يفعّل الشاعر فيها توجّهات التناص مع الآخر، وتقديم نصوص يحاكي بها سيرة وابداع عدد من مشاهير الأدباء والشعراء وأن اختيار (الآخر المبدع) يعبّر عن قصدية خطاب شعري يزاوج بين (البورتريت) وأسلوب مخاطبة يجسّد ما هو إنساني ومشترك وتكثيف لتجربة انسانية شفيفة.

أمّا الرؤية الثانية: فتجسّدها مجموعة من نصوص (الهايكو)، وهي ارتحال في مساحات مكتظّة بالمفارقة والاقتراب من هموم الإنسان الوجودية وإثارة أسئلة من خلال هذه الومضات السريعة والمعبرّة عن روح المفارقة وجدل الأضداد على مستوى تكثيف المعنى عبر الإختزال والإيحاء، وممّا يعمّق العلاقة الدلالية بين الرؤيتين (تناصات الآخر) و (نصوص الهايكو)، إنها تتوغّل في عوالم السؤال الشعري لتعبّر عن منظور استبصاري يهدف إلى الكشف والاكتشاف والتعمّق في التفاصيل الموحية وتتحوّل النصوص وفق هذه الدينامية إلى بقع ضوء استكشافي، ولحظة تنوير شعري، وهذا ما يمكن الإستدلال على قصديّة (الكشف) وما انطوت عليه (العتبة) الموسومة بعنوان (شذرة) التي تعدّ من موّجهات القراءة لهذه المجموعة، وهي مقولة لأرشيبالد مكليش: "إنّ الشاعر يتوجّه نحو أشياء العالم، لا لكي يكوّن افكاراً عنها، بل ليكشفها وبذا يكتشف نفسه وهو ينظر إليها". (المجموعة: 5).

ويصبح المعنى القصدي لهذه المقولة جزءاً من خطاب الشاعر، وقد أقرّ بأنّ النصوص سواء الموجهة إلى الشخصيات أم التقطيع الهايكوي، فهما يعبرّان عن سؤال الشاعر المرتكز على تحقيق الكشف وإضاءة هذه القصديّة، أي أنّه عبرها يحاول اكتشاف العالم، واكتشاف النسغ الوجودي، والاقتراب من سؤال المعنى، وهو أسلوب يزيح به الشاعر ذاته من مركزيّة الإرسال إلى تشظيات الهامش الذي يتحول عبر المعالجة إلى تمركز توالدي يجمع الذات مع الآخر، وصولاً إلى بعد رؤيوي فاعل ومؤثر وبعيد عن تمركز الذات ونرجسيّة التطلع، فهو يبحث من خلال هذه الإحالة والتنوير عن ذاته وعن الآخر وعن السؤال الذي يتطلّب إجابة عبر البوح والإيحاء واستقصاء المعنى.

تضمّنت تناصات الآخر خطاباً شعريّا (رؤيويّا) موجها ومحاكيا لشخصيات هي: "الرائي: إلى الشاعر سركون بولص و (التستري: إلى رجل في قصبة مجوفة اعتركته العصافير (جمعة اللامي) (المتوهج: إلى الشاعر الذي يضيء في عزلته... اقتضاء الأمكنة به... (فوزي كريم)، (الشاهد: إلى صلاح فائق) (الأرابخي: إلى جليل القيسي.. في انعكاسات مملكته الضوئية) (الدرويش.. إلى الساكن في قارّته السابعة.. ذات المجرّات الباردة (حسب الشيخ جعفر) (السرمدي.. صديقي كنعان شيخان)". (العنوانات والإهداءات من المجموعة).

ولم تك نصوص (خطاب الآخر) مجرد استعارة عابرة أو تضمين تزييفي بل إنها عبرّت عن رؤية شعرية شفيفة ودالّة، ويمكن أن نجتزئ مقاطع صغيرة من كلّ نص للإستدلال على عمق ودلالة هذه القصديّة وديناميّة الإشتباك مع الآخر عبر وعي الإلتقاطة والسؤال، فالنص الموجّه إلى (سركون بولص) على وفق استهلال وتضمين لعنوان من إحدى نصوصه:

ليست الشجرة/ بل كان دثار أوراقها

من يغطيني/ أنا (حامل الفانوس في ليل الذئاب)

تسترخي حولي الأنوار/ كريشة/ تبلّل

نداوة/ أجنحة (تجرح الهواء). (المجموعة: 13).

تتجلّى في النص رؤية تتعمّق باستحضار شخصيّة الشاعر، وتقترح فضاء يمزج فيه الشاعر تلك الرؤية، ويتشابك مع عدد من قصائده، وهو يكشف وجع الشاعر ومعاناته وتوّهجاته، وهو من النصوص الدالّة والشفيفة، ويمكن الإستدلال على ظاهرة التماهي مع الآخر إلى حد المطابقة في الأجواء والمفردات والصور.

إنّ نصوص (خطاب أو تناصّات الآخر) تشتغل في مساحة الابتكار والتجريب وهو منحى أو نزعة أو اسلوب تميّز به الشاعر (عادل) وأسس له عبر اشتغال وتجريب شعري للإمساك بلحظة يتوّقد فيها سؤال الرؤية التي تجسّد وسيلة لإعادة اكتشاف الآخر عبر هواجس الذات الشعرية.

وفي نص (التستري) الذي قدّم له بسطر جميل يذكر فيه، جمعة اللامي و(التستري) هو أحد رموز التصوّف والعرفان وسيمائية العنوان تحيل إلى (الآخر) واضاءة رحلته ، لأن القاص جمعة اللامي كتب قصّة قصيرة بعنوان (التستري) والشاعر قام بتناص عنواني واضح، والنص – كعادة الشاعر – يحفل بتضمين عناوين وإشارات تحيل إلى بعض الكتّاب عبر دينامية (خطاب الآخر):

"وسط غبار سابلة/ يتلّفت فزعاً.. / من أخبار المباركة..

فتنفلت نفحاته/ عبر شحوب مرايا/ تتلمّس بهجته المؤجّلة

للتواصل مع/ أسماك مقهى السعادة".. (المجموعة: 17).

نلحظ النص وقد استكنه شخصيّة القاص (اللامي)، واستحضر غربته وأوجاعه، وهو يخوض عبر مخاضات البحث عن المعنى والحضور المؤثّر.

وفي نص (المتوهج) الذي اهداه إلى الشاعر (فوزي كريم) نلحظ توّهج الشاعر وهو يتحدث عن ذلك الشاعر المغترب:

فهو ليله/ ذاك الذي أهمله

كما أهملته الباصات/ وهو بانتظارها

فمضت في شحوب/ معلنة عليه/ عزلة

خرج بها للعالم/ مكتنزاً/ ومبصراً/ ومبشّراً.. (المجموعة: 23- 24).

فالنص يفوح اختزالاً توصيفياً دالاًّ على سيرة ومكابدة وتجلّيات الشاعر (فوزي كريم)، والتغنّي بعزلته على الرغم من الانتظار الطويل والوجع وإهمال (الباصات) رمز الوحدة التي يعيش والضياع في انتظار عقيم.

ويمكن القول إنّ وعي الاختيار والتوّجه إلى مثل هذه الشخصيّات يحمل ويعبر عن قصديّة هذا الوعي وخلق تشابك مع الآخر بغية اكتشاف الهمّ الإنساني والوجودي الذي يكابده الشاعر نفسه، لكنّه يسعى إلى الرؤية – الإسقاطية – للجمع بين الذات المخاطبة – ضمناً – وبين الذات التي تخلق مساحة الجدل والسؤال والمطابقة ونلاحظ أن الشخصيّات التي ولدت عبر الاختيار وقصديّة التوجه (الانتقائي) هي شخصيّات اشكاليّة سواء من خلال سيرتها أو إبداعها ومغامرتها الوجوديّة والإبداعية، ونلحظ في نص (الشاهد) المُهدى إلى صلاح فائق، فإن العنوان يوحي بأنه شهد أحداثاً ورحلة لا تخلو من وجع البحث واكتشاف المعنى:

في إيماءات نزقة/ بلا أعراف

فليس غريباً عليك/ صنع استار من نقاط

تتماوج/ بنبل/ محتوياتها

عبر ثرثرات مقاهٍ/ في زمنٍ/ رديء.. (المجموعة: 27).

فالنص متوالية من الصور الشعرية الدالة التي برع الشاعر في تشخيص الإغتراب والوجع الذي تعانيه (الشخصيّة) المخاطبة وبتأطير اسقاطي، إنّ هذا الأسلوب الذي يتعمّق باستحضار إسقاطي أو شخصنة (الرؤية) ومن خلالها يضع الشاعر فضاء تتعالق فيه الذات الشعريّة مع الآخر المستدعى، والبحث في ما هو مشترك بينه وبين هذه الشخصيّات (الإشكالية) في نص (الأرابخي) الذي اهداه إلى القاص (جليل القيسي) نجد استحضار السيرة المؤطرّة بالإشارة وتضمين عنوان قصصه:

موحشة أمكنتك/ تتشرنق في نثار

(ومضات من خلال موشور الذاكرة)

ونحن إلى نهارات/ تجلّل

(شفاه حزينة)/ في نزوات/ تنصت لهمس/

(زليخا.. البعد يقترب). (المجموعة: 31).

والنص يتعمّق في استحضار شخصيّة القيسي إذ جعل عناوين قصصه دالات على وجعه الداخلي، ومغامرته الوجوديّة والإبداعيّة، والأحزان التي تحيطه من خلال الأمكنة الموحشة والشفاه الحزينة ولا تخلو القصيدة من تناص إسقاطي واستحضار الشخصيّة للتعبير عمّا هو مشترك ومتجلٍّ.

أمّا نص (الدرويش) الذي أهداه إلى الشاعر (حسب الشيخ جعفر) فنجده نصّاً استحضاريّا باذخ المعنى والدلالة والإيحاء مستخدماً الطريقة ذاتها في التناص مع عنواناته والإستدلال بها للتيّقن من أوجاعه ومكابداته وشعوره المرهف بالغربة:

في غبش غربة/ يضيء وجهك شعاعا

يتكسّر فوق خراب زجاج/ لا ينفذ منه

صدى/ صوت/ فترى شجرا/ يسعى

(عبر الحائط.. في المرآة..).

ونضارة روح يسكنها (طائر خشبي) (المجموعة: 35).

ويتجلّى في النص براعة الإستهلال وعمق الاستحضار الإسقاطي، وتفعيل تناصّات داخلية تكشف عن مكابدات واغتراب الشاعر وبحثه الدائب عن سؤال المعنى، وتشعر بأن غربة الشاعر قد تحوّلت إلى وجود إشكالي يختزل وجع الذات التي تبحث عن وجودها، وعن وجود مضيء بعيداً عن خراب الواقع وتداعياته وما يعيق الذات في رحلة التوق إلى الضوء ومقاومة العتمة.

وفي نص (السرمدي) الذي أهداه إلى (كنعان شيخان) نجد استحضاراً للشخصيّة وهي تكابد العوز والأحلام المؤجّلة، ويسرد الشاعر ذكريات الطفولة المشتركة، ممّا يعمّق دلالة الاستحضار:

فما زلت منبهراً بإشراقات رغبتك

رغبة الحياة/ تغدو/ منكسرة

تقود خطانا/ إلى فضاءات زقاق طيني

تضيق/ متهالكة/ أبواب أسراره.. (المجموعة: 38).

هذا النص زاخر باستحضار الوجع واغتراب الذات، والبحث عن بارقة وجود متوّجه، تبعث هواجس البقاء والتشبّث. أمّا الرؤية الثانية التي عبرّت عنها نصوص الهايكو فقد عمّق الشاعر خصائص البوح الاختزالي وقد ارتكزت النصوص على تجسيد المفارقة (الوجوديّة) والتعمّق في رصد ثنائيات الوجع، وثنائيات التضاد، وقد امتازت بالإيقاع السريع والتكثيف الرؤيوي، وإثارة اسئلة البحث والتطلّع وتحضير ذاكرة المتلقي للتأمل واستحضار المعنى الغائب والمضمر، فامتلكت هذه النصوص القدرة على الكشف، والقدرة على الإيحاء، والرصد الدال: كلّما مشيت مع طريق/ أسمع أنين/ ظلال.. (المجموعة: 51)

وفي هايكو آخر يقول:

(في أزيز خراب/ ضلّت/ الغيمة/ فلم تمطر..). (المجموعة: 51).

نلحظ في النصّ استحضار روح المفارقة وبراعة (الومضة) السريعة في إثارة التأمّل والسؤال وهي مؤطرّة بمناجاة الوجع والأسى، وتتعمّق (المفارقة الوجوديّة) من خلال ومضة (هايكو) سريعة:

في الحقول/ يزرعون أزهاراً، تسبّب دواراً للشمس... (المجموعة: 53).

وفي هايكو آخر يقول:

من دون رفيف... / الحديقة: مكتظة بالأجنحة. (المجموعة: 53).

وفي نص آخر يقول:

أي ليل/ ذاك الذي/ يلملم نعاس الوسائد (المجموعة: 54).

ويرصد الوجع عبر ومضات (هايكو) اختزالية تحتفي بروح المفارقة:

(28)

الحمامة في محنة/ من يزيّن/ ريش زفافها...

(29)

المساء يتأرجح/ كأنه/ يعصف بأعشابه

(30)

متى يحاول/ ترتيب قطراته/ المطر.. (المجموعة: 60).

إنَّ نصوص الهايكو لدى عادل غضبان ترسّخ للحظة متأرجحة تعكس صورتين للتضاد والإشتغال على ثنائيات (الجمال والقبح) و (الحركة والسكون) و(الوجود واللاوجود) و(القلق والثبات). وعلى وفق اشتغال يستثمر خواص وشعريّة (الهايكو) وتقديم ومضات فنيّة عالية اتّسمت بالمفارقة وتجسيد التناقض، وصولاً إلى إثارة السؤال والإيحاء والبحث عن لحظة التجلّي الشفيف.

هذه المجموعة ثريّة بظواهر فنيّة متعدّدة أهمها المتعاليات النصيّة التي يقدّم فيها مجمل النصوص ويهديها إلى مبدعين ليسوا شعراء فقط إنما قصاصون وأصدقاء وتتميز تلك المتعاليات بلغة شعرية شفيفة وموحية تصل إلى حد أنها (نص شعري) بذاتها وهي تحتاج دراسة خاصة لأن الشاعر وزّع ذاته على الآخر وذلك وفاء ومحبّة لا تتوفر بسهولة لدى بعض الناس.

المشـاهدات 70   تاريخ الإضافـة 23/07/2024   رقم المحتوى 49968
أضف تقييـم