النـص : سمير رمان
تعرض دور السينما الأوروبية هذه الأيام فيلم "الإمبراطورية/ Empire"، الذي يقدم مثالًا غريبًا لما يعرف بسينما الفانتازيا الفنية/ Arthouse ، من إخراج المخرج الفرنسي برونو دومون/ Brono Dumont.ما يميّز أبطال فيلم "الإمبراطورية"، كأبطال بقية أفلام دومون، أنّهم يفضلون دومًا شمال فرنسا على بقية الأماكن. الأمر الوحيد الذي بقي ثابتًا لدى دومون هو ولاؤه المطلق للشمال الفرنسي: تمّ الاعتراف به كـ"عبقري الأماكن" منذ فيلمه الأول "حياة المسيح". أمّا فيلمه الثاني "الإنسانية" فقد حصد ثلاث جوائز في مهرجان كان عام 1999. وهنالك أيضًا، وبعد مرور بضع سنواتٍ، حقق فيلمه "الفلاندرز" النجاح أيضًا، رغم أن هذه الأفلام كانت كلّها محبِطةً ومنغلقةً على نفسها، مثقلة بوظائف جسدية مترافقة مع انفجارات روحانية مؤلمة. لقد عزّز دومون مكانته في عالم السينما كمؤلفٍ راديكاليّ كئيب متحيّز بحماسة للباحث عن الله، المخرج الفرنسي روبرت بريسون.بدءًا من مسلسل المحاكاة الساخرة البوليسي "الصغير كينكن/ Kid Kenken"، كشف المخرج عن نفسه للجمهور بطريقةٍ جديدة تمامًا، مستخدمًا ترسانةً من الثقافة الشعبية، وليظهر بشكلٍ متصاعدٍ تدريجيًا باعتباره فنانًا كوميديًا دائم التطور. وبالمناسبة، فإنّ الثنائي الدركي الكوميدي ــ ذو الشارب، روجيه فان دير بايدن (الممثل برنارد بروفو)، وكاربنتر الذي فقد أسنانه (الممثل فيليب جوريه) من فيلم "الصغير كينكن" يمران أيضًا بسرعة على أطراف فيلم "الإمبراطورية". وكما في السابق، يعاني أحدهما من تشنّجٍ عصبي، فيما يمارس الآخر هوسه في التفلسف، بمناسبةٍ وبغير مناسبة، وهو الذي يتأتئ في كلّ جملةٍ يتلفظ بها.ولكن لدينا هنا كوميديا ذات مستوى أعلى، بل وشريرة نوعًا ما. بإلقاء نظرةٍ على أداء الممثل الفرنسي فابريس لوتشيني، الذي يتخذ هيئة أميرٍ جهنمي، ويؤدي عروضًا إيمائية لا تضاهى. ولكن ليس هنالك أيّ رعونة هنا: فالتزام المخرج بتقاليد القرون الوسطى القوطية، وغيرها من العصور النبيلة، تؤكدها تشكيلات فنية رمزية ضخمة من فضاء كاتدرائية سانت شابيل القوطية، ومن قصر الباروك في مدينة كازارتيه الإيطالية التي ترافقها أنغام الموسيقار الألماني باخ. لا يحبّ دومون تغيير المواقع الجغرافية. تجري الأحداث، كما في السابق، في قرية (أودريسيل) الواقعة على شاطئ أوبال، الذي وقع عليه، لسببٍ غير معروف، اختيار كائنات فضائية لتكون مقرّها الرئيس على الأرض. ربما يكون الفضائيون قد اختاروا هذه المنطقة بالذات، لأنّ قاطنيها الأصليين سذّجٌ وغريبو الأطوار بشكلٍ خاصّ، ويمكن بسهولة أن يسكن في أجسادهم عملاء إمبراطورية ما بين الكواكب، المكلفون بتحقيق أهدافهم وتنفيذ المهمات الملقاة على عاتقهم. تتحول المناطق النائية الكئيبة المحيطة بالقرية إلى ساحة معركةٍ عالمية حاسمة بين الخير والشرّ.ينصبّ جلّ اهتمام المحاربين الفضائيين على ولادة طفلٍ غامض يدعى فريدي، من نسل صيّادٍ محليّ، مقدّر له أن يصبح مسيح الشرّ، والذي سيعمّق العداوة المستفحلة أصلًا بين أبناء الجنس البشري. على خلفية هذه السياسة التوسعية التي انتهجتها القوة الفضائية، يقوم البشر باللجوء إلى تطبيق تدابير استثنائية متطرفة، على سبيل المثال، قطع الرؤوس باستخدام سيوفٍ ضوئية، في محاكاةٍ ساخرة مضحكة لفيلم "حرب النجوم"، الذي لا نهاية له.الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو تمكّن الفيلم من الجمع، من دون عناءٍ أو حرجٍ، بين الحبكة الفانتازية الرائعة، والجوّ الأصيل لقرية صيادي السمك، بكلّ جوانب حياة سكانها اليومية والعائلية والجنسية. بهذا المعنى، يبرز بشكلّ خاصّ مشهد المرأة عمدة المدينة، وهي أيضًا تمثّل ملكة الفضائيين من حيث التسلسل الهرمي لقواتهم، عندما تلتقي في الشارع امرأةً محلية عجوزًا تحمل سلّةً مشتريات، فتسألها الملكة عن أحوالها. تشكو العجوز للملكة الفضائية ألم ساقيها. تدهش الملكة وتسألها مستغربةً: "ولكنّك تذهبين إلى السوق مع ذلك". تجيب العجوز أنّها لا تملك خيارًا آخر. على كلّ سؤالٍ لاحق تطرحه الملكة، على سبيل المثال عن زوجها، تجيب العجوز بالصيغة نفسها. تعقّب الملكة بابتسامةٍ متعالية: "كم هم مضحكون هؤلاء البشر".اكتشف دومون متأخرًا بعض الشيء أنّ البشر مخلوقات مضحكة فعلًا، ويبدو أنّ المخرج كان قد افترض منذ البداية أنّ أجساد البشر المادية ليست سوى حاويات لنوعٍ ما من القوى الخارقة للطبيعة القادمة من خارج كوكب الأرض. تحكي أفلامه عن متوحشين متحضرين يعيشون بين ظهرانينا، وعادةً ما تكون حياتهم مملّة وخالية من الأحداث، بيد أن طبيعتهم الهمجية تتجلى في ارتكابهم أعمال قتلٍ وحشية، أو في مشاركتهم في حروبٍ أُخرى لا تخصّهم. إنّهم يسلمون أجسادهم، بكلّ طيب خاطرٍ، لقوى الشرّ التي تحتلّها وتستغلّها لتحقيق أغراضها. غالبًا ما يتظاهر هؤلاء بأنّهم فرسان الخير، ويخفون طويتهم الشريرة.إنّه خداعٌ مزدوج، استبدال محتويات الجسد، وفي الوقت نفسه استبدال الخير بالشرّ. وهنا، تختلط الأوراق تمامًا، ويجد الفضائيون أنفسهم فجأةً أمام مشكلةٍ عويصة عصيّة على الحلّ. وبغض النظر عن مستوى البدائية التي يكون فيها الناس الذين يبدون حمقى للغاية من وجهة نظرٍ خارجية كونيّة، فإنّ الشرّ الذي يجوب دواخل النفس البشرية قد استحكم لدرجةٍ أصبح عندها القضاء عليه أمرًا غير ممكن، لأنّه قد خلط جيدًا داخل الجسد البشري، وغالبًا ما يكون في مقدوره التعايش مع الخير، فيصبحان كتلةً واحدة يستحيل فصلهما عن بعضهم بعضًا، حتى ولو لجأ الفضائيون إلى استخدام سيوفهم الضوئية ذاتها.
|