
![]() |
الوجع بوصفه فضاءً |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص : د. سمير الخليل يتمركز الإحساس بالوجع وتشظياته في مجموعة (رائحة النجمة) للشاعر عباس فاضل الصادرة عن (منشورات الاتجاه- بغداد 2022)، وهو يتوغل في عوالم وتداعيات تكشف عن ارتباط الذات الشعرية بكل ما هو إنساني شفيف مؤطّر بعشق المكان والمعنى ولحظة الوجود الحقيقية، واستلهام الألم النبيل الموجع، وهو يقدّم ترتيلة للشهداء والمضحّين، ويتغنّى بالوطن وهو الذي جرّب الترحال بحثاً عن وطن وحلم، وذات لا يمكنها الفكاك من حبّ جامح استحال إلى وجعٍ بحجم التأمّل. وتأسيساً على هذا المعنى لا نجد الشاعر يرتكز على الذات بوصفها المرتكز الأساس، فهو يضعها موضع التحاور مع الأحداث والأمكنة والوقفات، ولذا فإنّنا نجد النصوص خارج التمركز الذاتي، وما يطغى على المجموعة إلاّ الميل إلى استلهام الهمّ الوجودي، والهمّ الوطني وقلق الإنسان، وهو يرى الخراب، والقبح يزحف الى مرتسمات الجمال والمعنى وتاريخ الزهو الذي يتمثّل في لحظات وتداعيات تشكّل نبض الوجود ومسالك التوق لكلّ ما هو إنساني وعميق ودال . ونلحظ الشاعر يمتلك نزعة إنسانية دالّة في كلّ ما يتناوله من تداعيات، وما يصوّره من وقائع ورسم خرائط الوجع الإنساني بكلّ أشكاله، رافضاً كلّ زاوية معتمة من أقبية القهر، وسوح الموت والغربة، وانطفاء المعنى، ويتّجه نحو مناجاة الأم والأخ (الشهيد)، والأماكن التي غادرها الشغف والذكريات والحنين إلى وطن حقيقي بعيد عن الإنكفاء والإندثار. إن نصوص المجموعة تؤرّخ الوجع الإنساني الذي تحوّل عند الشاعر إلى فضاء يمزج الهمّ الذاتي بالهمّ العام، ويتطلّع من كوّة بسعة الحلم لرصد هذا الوجع الذي يتسرّب مثل طفيليات سود تشوّه جمال لحظة يتجلّى فيها الوجود على شكل ترتيلة بهيّة، فهو شعر ينتمي إلى الطابع الإنساني، والوطن، ويكشف عن التزام في كلّ حرف أو رؤية أو خاتمة. ويتقن الشاعر (عباس فاضل) بمجسّاته كيفيّة المزاوجة بين ثنائية الذات والآخر والهمّ الذاتي وهموم الإنسان بكلّ أشكالها، وتنويعاتها وتحوّلاتها سواء ما يتصل بما هو يومي أم تاريخي، ولذا نلحظ كثيراً من الإشارات التي تعّمق مثل هذه الدلالات، وتنعكس هذه الثنائية المستلهمة للذاتي والموضوعي على النمط التعبيري الذي يسلكه الشاعر في الصياغة والتناول، وقد انشطر شعره إلى ثنائية النص القصير الذي يصل إلى (الهايكو) أو التحوّل الى النص الطويل الذي يستشرف بانورامية الوقائع، ويغوص في التفاصيل، وتلك مزيّة تعبيريّة تكشف عن قدرة للإمساك بالنص الطويل، والنص المكثّف، وحسب موجبات التأطير أو التناول الشعري، مع أنّ مضامين النصوص تستند على النزعة الإنسانية كما قلنا والتعلّق بكلّ ما هو جميل وشفيف من أجل واقع أجمل يتجاوز الموجود، وذلك ما عبّرت عنه وأشارت إليه عتبة المجموعة المستعارة من مظفر النواب كما أشار الشاعر: "عراقي هواه، وميزة فينا الهوى خبل" (المجموعة: 5)، ونلحظ في سيميائية العنوان (رائحة النجمة) الإرتباط والتنافذ بين تراسل الحواس (الشم/ الرؤية) يقول الشاعر في نص (ثورات): بعض / ممن نعرف / مات / والبعض الآخر / فات. والبعض الآخر/ نسر يمتلك السموات / ما أشقى قلب الثورات.. (المجموعة: 32) وتبدو في النص إنتقائية المفردة الرصينة والإختزال الذي تتجلّى فيه الرؤى الشعرية وهي تقدّم صورة لمعنى دال. أمّا نص (قم يا سجين الكهف) فهو نص طويل ووقائعي، يرصد فيه الشاعر سيرة أخيه ومصيره الذي اعتقل وقضى في أقبية الإستبداد والوحشية، ويمكن تلمّس الومضة الوجدانية التي استهلّ بها النص إذ مثّلت البؤرة التي تصاعدت في فضاء الوجع: "إلى (س) المعتقل في قبور النظام العراقي منذ عام 1981" : جمعة تشرق سكرى / فوق قطعان المباني / صوت أمّي أيقظ الحي ونار القلب/ هزّ السندس المزروع في أرجوحة الوقت فجاء الظهر ركضا / قم يا اخي / كلّنا أيقظه موال ديك كلّنا فاز برضوان أبي / دعني أنم / فاللّه أعطاني نهاراً راحة من بعد سعي.. (المجموعة: 7) ويمكن الإستدال على عدّة ظواهر في هذا المقطع الذي يختزل تقنيات الشاعر واشتغالاته، فهو يجيد الإستهلال والتوغّل في مشهدية الرؤية الشعريّة ويقدّم مساحة للفعل البصري، وحركيّة الفضاء والمزاوجة بين المكان والزمن والدلالة وتداعيات المشهد وجمالية الانتقال من ومضة الى أخرى. وعبر النص الطويل استطاع فيه الشاعر أن يتعمّق في وقائع القهر والوجع وهو يكشف عن القبح واستعباد الإنسان روحاً وجسداً، وقيمة، ووظّف (التكرار) كوسيلة لربط مقاطع النص والذي جاء على شكل أسئلة وابتهال وتأمّل، فضلاً عن إيقاع (الرمل) المتسارع: قد نزعنا جذوة الحلم / رويدا رويدا / ورضينا بنصيب الطير / من بخل الغمام قم حبيبي / قم حبيبي / قم حبيبي.. (المجموعة: 18). وبالنزعة الوجدانية والشغف إلى قيمة الإنسان، وجمالية وجوده، نجد الشاعر في نص (قصائد إلى أمي) وقد تجلّى التوكيد ومضة تثير الوجع: أعرف الآن / صلاتك / واقفة/ كنخلة في الخريف / ويداك مرفوعتان مثل سنبلتين / ضائعة / في التراتيل التي تحمي / والتراتيل التي تُهدي والتراتيل التي طعمها أمل.. (المجموعة: 19).
ويتجلى ولع الشاعر بانتقاء اللّفظ المتناغم والمستوحي للمعنى، وعبر تأطير اختزالي لا يميل إلى الإسترسال والفائضية، نص يكتنز بتكثيف الصورة التي غالباً ما تميل إلى تأسيس (مشهدي)، ويقدّم صورة تعكس المعنى المراد وبتوظيف (التكرار) لتوكيد هذا المعنى. ولعلّ الطابع الشفيف لشعر (عباس فاضل) يجعله يتوجّه إلى الأقرب إليه في نطاق العلاقات، ليعبرّ من خلال هذا التناول قيمة وجود الإنسان سواء أكان قريبًا أم بعيداً، وغالباً ما يتناول في نصوص مثل هذه الشخصيات ليؤسس من خلالها فضاء لاستقصاء الوجع والأسى، الذي يمّثل مسحة اقترنت بها نصوصه الدالّة، ونلحظ الوجع وقد تجلى على وفق صياغة الإختزال والرصد العميق في نص (وجوه): الوجوه التي تتعقبنا / كالظلال الكئيبة / هل تقدر أن تمسك مليون نشيد أهديناه لألوان الغابة / ثم ربطنا رايات الوجد بسنبلة .. (المجموعة: 31). فالنص يتمركز في حركيّة مشهدية فدائماً نجده يصف مشهداً متحرّكاً ثم يتابع هذه (الحركيّة) لتعميق المعنى الكليّ للنص ويجيد براعة الانتقال لتوسيع زاوية الرؤية التي غالباً ما يلجأ إليها الشاعر لتقديم مشهدية أكثر اتّساعاً. ونواجه وجهاً أو صورة للوجع وقد استحالت إلى فضاء تعبيري كمًا في نص (عشّاق): يا رفيق الوجد / هذي أمنيات الوجد جمر / دوّرتنا الريح أعواما بأرجاء البلاد / آه لم نعتب / ولم نعتب / على الأيّام ما عادت بزاد في الصحاري / قد أكلنا (المرقة) مغموساً بها / الطين جلوناه عن النهر فاض الماء بالرقص / انسلخنا من جذور الضيق / طلاّبا لكي نغدو نسورا نحن عشاق / ويا نعم البشارة.. (المجموعة: 37). إنّ هذا النص يعبّر عن وجع إنساني حين يكون الإنسان محاصراً، والأعوام تأكل روحة، وعلى الرغم من هذه المكابدة داخل أسوار وزوايا المكان المتصحّر، فإنّ هذه المكابدة تعبّر عن عشق لمعنى يجعل الإنسان يحتمل كلّ هذا القبح والرماد والتعب وقد استحال كلُّ شيءٍ إلى جمر، ورحلة بلا زاد. ويمكن الإستدلال على حركية النص والعناية ببناء مشهدية تعبيرية تعكس الأسى الذي تنتجه (بيئة المكان) وزواياه المعتمة والمتصحّرة، وتبدو براعة الشاعر جليّة في وصف مثل هذه اللّحظات المأزومة، ولكنّه لا يقدّم رثاء أو رؤية شاحبة فغالباً ما يعبّر عن المعنى الآخر الذي يدلّ على القوّة والتوق وتجاوز لحظة الإنكسار، بالإنفتاح على المعنى النقيض وكأنّ هذه المعاناة هي الدليل على وجود الإنسان الحقيقي الباحث عن التوق والجمال والشغف وبلا كلل. وانطلاقاً من هذا الشغف الواضح نجد الشاعر في نص (قد كان) يعود إلى مرافئ وفضاءات الطفولة ليستقصي عوالم بيض تقدّم الإنسان شفيفاً متوهجاً: قد كان لي طفولة / ورفقة تطارد السفن / وصخرة وقفت فوقها رأيت شاربي / رسمت طالعي / بمنجل المحن / قد كان لي نجيمة / منارة للغيم أعلو فوقها / أروم آخر الزمن / قد كان لي أمّاً / ووالداً / حبيبةً قد كان لي وطن.. (المجموعة: 38). ولعلّ هذا النص من النصوص التي تستدعي التوقّف عندها لما انطوى عليه من اشتغال شعري عميق ودال، وهو يتوغّل في عوالم الطفولة، وكما اعتاد أن يرسم ملامح المشهد أو البيئة (الشعرية) التي تتابع حركة الأشياء والمعاني والدلالات وينقلنا عبر هذا (الفعل البصري) إلى تلك العوالم بكلّ ما فيها من توق ووجع، ويسترسل في انتقالات دالّة تحمل كثيراً من معانٍ ومراحل هذه الرحلة التي لا تخلو من ضنك ومعاناة. فالشاعر يستدرج الملتقّي باتجّاه تداعيات أخرى لتتحّول الفكرة إلى انتماء (انساني) ويحدث التماهي الجميل بين الأم والأب والحبيبة والوطن، وتصبح القصيدة بإيقاعها (الرجزي) هي (ومضة) إنسانية تبحث عن معنى لوجود حقيقي، فالوطن هو مجموعة من البشر الذين يتشكل بهم معنى التوحد والتناغم والجمال، وهذه الدلالة تعبّر عن عمق العلاقة بين المدلول المكاني والمدلول الوجداني وإن الوطن ما هو إلاّ الإنسان الذي يعيش فيه ويتماهى معه ويبقى ينتظره ويتطلّع إليه على الرغم من كلّ الوجع والإنكسار والانطفاء الذي يسببه من يمتلك القبح ليحارب الإنسان والجمال والحقيقة من خلال استهداف الوطن، وهذا الملمح يحيل إلى مفهوم وقيمة ودلالة (الوطن) التي ارتكز عليها الشاعر في معظم نصوصه المترعة بالإحساس (المكاني) والإنساني والدلالة على قيمة الوطن، والتوق الشفيف للعيش الرغيد. إن عباس فاضل لم يكتب شعراً وطنياً أو سياسياً مباشراً، أو تهريجيا، أو هتافات حماسية إنه تسلّل إلى ذائقة المتلقّي بومضات إنسانية شفيفة ومؤثّرة، فقد كتب بعفوية الصدق الفني فكانت بلاغة التجسيد وقوّة التشخيص وهو يبحث عن وطن.
|
المشـاهدات 193 تاريخ الإضافـة 15/09/2024 رقم المحتوى 53461 |

![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |