الجمعة 2024/10/18 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 32.95 مئويـة
الكتابة الرّوائيّة وجدليّة الحجم
الكتابة الرّوائيّة وجدليّة الحجم
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

حميد الشمران

 

هل هناك عدد مثالياً لصفحات الرواية؟ هل توجد مقاسات جاهزة -طويلة أو قصيرة- يضع فيها الراوي مادته السردية؟ لا أظن ذلك يتناسب مع ما يرتبط بالاشتغال الروائي من تفاصيل وإثارة مليئة بالمتغيرات التي تحدث مصادفةً حيث كونها تولد أثناء الكتابة وتتسع بحركة منتظمة في انفتاحها على تفاصيل أخرى إلى أن تتوضح كامل ابعاد العمل الروائي، بالأحرى هو تحريف في المسارات الصحيحة للكتابة الروائية التي من مهامها أن تنقل أحاسيس أبطالها إلى القراء عبر تدوين كل ما يتعلق بهم من وصف لملامحهم ولمشاعرهم ولأنساقهم الاجتماعية، حيث عرفت الرواية منذ النشأة نسيجاً لغوياً متلاحماً لا يتطلب العجالة على حساب حجمٍ معينٍ يوضع مقدماً في قرار يؤخذ من قبل الكاتب قبل شروعه بالعمل الروائي، لأن هذا ببساطة منافيٌ للحكي الروائي الذي يطول ويقصر مع اتساع خيال الراوي بوصفه الفاعل الأكبر والاهم في السرد الروائي، ولذلك نرى المشاريع السردية التي امتازت بالنمط المطوّل كيف لاقت قبولاً واسعاً وعلى اختلاف أزمنتها حيث نجحت في إعطاء القرّاء تصوراً شاملاً عن ظروف أبطالها ليعيشوا مع شخصياتهم أبسط لحظاتهم متفاعلين مع سير أحداثها ومتنقلين في تفاصيل سردية مشوّقة تتنامى بهدوء ورويّة ثم تتصاعد آثار تلك الأحداث المسرودة في ذهنية المتلقي شيئاً فشيئاً مع إيقاع الحدث الرئيسي ومن دون أي شعور بالملل أو الإحساس بالضجر بالرغم من طول النص الروائي، حيث تجد القارىء منشغلاً مع التحول التدريجي والمتتابع بترتيب ودقة في الأحداث على طول الرواية بسبب علاقته الوجدانية المتشكّلة من تتدفق العاطفة داخل النص، لذلك فان تلك النصوص المطوّلة بتفاصيلها وهي تتناول صراعات الإنسان قد امتازت بأنها لا تزال عالقة في الأذهان، فلا يمكن نسيان أو تجاهل كثير من الروايات الضخمة من ناحية الحجم، وعلى سبيل المثال روايات تولستوي، أو رواية دستويفسكي "الإخوة كارامازوف" أو هاروكي موراكامي في رواية "1Q84" أو روايات جورج أوريل أو هيرمان هيسه أو الثلاثية لنجيب محفوظ وغيرهم الكثير ممن ساروا على نهج الكتابة الروائية المطولة المتقنة بإحكام السرد الروائي، ولم يتأثروا لما يقال عن حجم الرواية الذي يحاول البعض أن يربطه بالزمن وسرعته وتطوره ورغم زخم النتاجات على طول تأريخ الرواية. لقد نجحوا أولائك الروائيون كونهم اشتغلوا في نصوصهم على الاستغراق والسعي وراء التفاصيل الواقعية والتخيلية ومن دون أن يضعوا حداً مسبقاً لعدد الصفحات، كتبوا ما يجب أن يكتب مع الحفاظ على بنية النص بجميع خصاله. إذ كانوا يحاولون في خطابهم السردي وهو يتناول القضايا القيميّة فيما يتعلق بالبشرية وما يحيطها من محن ونكبات وعلى وفق واقعها الحياتي الراهن، كما اشتغلوا على الكشف عن الحوار الجواني للإنسان المضطهد ليجعلوا من السرد الروائي وجوداً واقعياً وإبداعاً فاعلاً في الذائقة العامة ومفهوماً ومؤثراً من ناحية البناء اللغوي والوصفي، وفي ذات الوقت كتبوا بلغة مباشرة وممكنة لا تتطلب من القارىء أن يدخر جهداً كبيراً في تفكيك ما تعنيه الجمل المحملة بالتكثيف أو بالفلسفة أو البلاغة اللغوية أو الرمزية الجامدة أو الفنطازيا العالية أو الانزياحات الشعرية المبالغ فيها، لان الراوية في الأصل هي مساحة فنية تمثل الواقع تمثيلاً حياً حتى لو كنا إزاء نصاً متخيلاً يجب أن لا يبتعد عن مصاف العوالم الممكنة، وإن حدث غير ذلك في نص ما سوف يعدّ عرضاً لغوياً مسبوكاً بمهارة لغوية يشار لها ولجمالها شريطة أن تظيف إلى المشهد المسرود لا أن تلبسه ثوباً غير ثوب السرد الروائي، وما عدى ذلك يعتبر تأثيث النص المنفتح على أجناس أخرى ومن دون دواعٍ دالةٍ هروباً متقناً باستخدام لغوي بغية اختصار المسافات المفترضة، أو يمكن أن نعتبره مخرجاً خلفياً ينم عن ضعف مقدرة كاتب العمل من الإحاطة بعمومية نصه الروائي، إذ لا يمكن أن نسميه فناً روائياً غايته منح القارىء قصصاً مفصلة ومحملة بالتشويق والإثارة. فالرواية لا تبحث عن القول اللغوي المحدد برقم معيّن أو قالب معين أو عن الأساليب العشوائية التي تلتهم التفاصيل بالاختزال بقدر ما تبحث عن المضي حسبما يقتضيه الحدث وتفرعاته باستخدام لغوي صريح بلا انقطاعات أو قفزات مؤطرة بإدعاءات حداثوية. جاءت الرواية لتتيح للمتلقي أن يرى ما يقرأ ليعيش مترقباً لما سوف تؤول إليه النهايات وهو يزيل أغشية النص شيئاً فشيئاً مستمتعاً بالمغامرات التي تستحق الصبر. وإن الغاية الأولى والأخيرة من كتابة الرواية هي تحقيق أثرٌ يبقى ماثلاً في ذاكرة الناس. أن تلك النصوص المطولة والملتزمة بمفاهيم ومعايير الطريقة الروائية تعد بمثابة الصورة المثالية للرواية عبر العصور بعد أن أستطاعت بتفاصيلها الإبداعية والجمالية أن تنقل الواقع إلى الورق بصياغة محببة وأن تدرك نزعات الإنسان بدوافعه وغرائزه النفسية.

المشـاهدات 49   تاريخ الإضافـة 06/10/2024   رقم المحتوى 54460
أضف تقييـم