الأربعاء 2024/12/4 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 19.7 مئويـة
الواقعية التخمينية: اتجاه فلسفي معاصر
الواقعية التخمينية: اتجاه فلسفي معاصر
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

 

الدكتور عادل الثامري

 

مع بزوغ فجر القرن الحادي والعشرين، شهد عالم الفلسفة ولادة حركة جديدة تحمل في طياتها وعدًا بإعادة تشكيل الفكر الفلسفي برمته. هذه الحركة، التي عُرفت باسم "الواقعية التخمينية"، جاءت لتتحدى الأسس الراسخة للفكر ما بعد الكانتي، وتفتح آفاقًا جديدة للتأمل الفلسفي. منذ ظهورها في مؤتمر شهير عُقد في جامعة غولدسميث بلندن عام 2007، أثارت الواقعية التخمينية موجة من النقاشات الحادة والاهتمام المتزايد، ليس فقط في أوساط الفلاسفة، بل امتد تأثيرها ليشمل مجالات الفن والأدب والدراسات الثقافية.

تقوم الواقعية التخمينية على مجموعة من المبادئ الأبستمولوجية الأساسية: فهي أولاً تعارض مركزية الإنسان في الفلسفة وتسعى لتجاوز القيود التقليدية للتفكير الفلسفي، وثانياً تتبنى منهجاً تخمينيا جريئاً يشجع على طرح تصورات جديدة عن الواقع حتى لو بدت غير مألوفة. كما أنها تتخذ موقفاً إيجابياً من العلم كمصدر موثوق للمعرفة عن العالم الموضوعي، مما يضعها في تعارض مع التيارات الفلسفية المتشككة في العلم، وفي الوقت نفسه تنتقد الاعتماد المفرط على التجربة الإنسانية كمصدر وحيد للمعرفة، مما يجعلها في موقف نقدي من الظاهراتية.

تستقي الواقعية التخمينية أصولها الفكرية من مصادر متنوعة في تاريخ الفلسفة والعلم المعاصر. فهي تنطلق من إشكالية كانط حول "الشيء في ذاته"، وتستلهم من العقلانيين مثل لايبنتز وسبينوزا، وتتأثر بفلسفة العملية لوايتهيد ودولوز، وبالأنطولوجيا الرياضية لباديو. كما تستفيد من التطورات العلمية الحديثة في الفيزياء والرياضيات، ويقدم هارمان إسهاماً مميزاً من خلال "الأنطولوجيا الموجهة نحو الكائن" المستوحاة جزئياً من علوم الحاسوب. ورغم موقفها النقدي من الظاهراتية، إلا أنها تتفاعل مع أفكار هايدغر وهوسرل، كما تتأثر بميتافيزيقيا الاختلاف لدولوز ونقد نيتشه للميتافيزيقيا التقليدية.

يتمحور المشروع الفلسفي للواقعيين التخمينيين، وعلى رأسهم ميلاسو وهارمان وبراسييه وغرانت، حول معارضة المركزية الإنسانية في الفلسفة المعاصرة. فهم يرفضون حصر الفكر الفلسفي في تحليل بنى الفكر البشري واللغة والخبرة، كما هو سائد في الفلسفة القارية ما بعد كانت، ويدعون بدلاً من ذلك إلى نهضة ميتافيزيقية جريئة تسعى لاستكشاف الواقع المستقل عن العقل البشري وفهمه. هدفهم الأساسي هو تطوير أطر فلسفية جديدة تتجاوز "الارتباط التأسيسي" بين الوعي والواقع، وتنفتح على دراسة العوالم الواسعة للوجود التي تقع خارج نطاق التجربة الإنسانية. ولمواجهة هذا القيد الذي يعتبرونه عائقاً أمام الفهم الحقيقي للواقع المطلق، يسعى الواقعيون التخمينيون إلى تحرير الفكر الفلسفي من هذه القيود وفتح آفاق جديدة للتفكير، بهدف تمكين الفلسفة من التعامل مع الواقع كما هو، بغض النظر عن علاقته بالإنسان أو إدراكه.

يرى الواقعيون التخمينيون أن الخلل الأساسي في الارتباطية يتمثل في تقسيمها للواقع تقسيماً متمركزاً حول الإنسان: بين ما هو "لنا" - العالم المرتبط بالفكر والتجربة البشرية - وبين المطلق في ذاته الذي يُعتبر غير قابل للوصول. وينتقد غراهام هارمان هذا النموذج الارتباطي الذي يحول العالم إلى مجرد مجال تمثيلي بشري محاط بمجهول يقع خارج نطاق إدراكنا، مما يؤدي إلى انقسام الواقع بين تمثيلات ظاهرية متأصلة في الذاتية البشرية وعالم الأشياء في ذاتها الذي يظل بعيداً عن الفهم التصوري. ويرى الواقعيون التخمينيون أن هذا التقسيم يحد بشكل كبير من قدرتنا على فهم الواقع كما هو خارج نطاق الإدراك البشري، إذ يحصر تفكيرنا في حدود ما يمكن للعقل البشري إدراكه، مما يجعل أي محاولة للتفكير في الواقع المطلق أو المستقل عن الإنسان أمراً مستحيلاً من وجهة نظر الارتباطية، وهو ما يسعون إلى تجاوزه وتقديم بديل له.

في كتابه المؤثر "بعد النهاية"، يقدم كوينتين ميلاسو نقداً عميقاً لمفهوم "الارتباط"، الذي يعني استحالة فهم الوجود والتفكير كعنصرين منفصلين. يرى ميلاسو أن هذا المبدأ، الذي يعود جذوره إلى فلسفة كانط، يشكل عائقاً أساسياً أمام إمكانية التفكير في المطلق - أي ما يوجد بشكل مستقل عن العقل البشري. من خلال ما يُعرف بـ "مفارقة الأسلاف"، يكشف ميلاسو تناقضاً جوهرياً في الفكر الارتباطي: فإذا كان الفكر لا يمكنه إدراك الواقع إلا من خلال علاقته بالوعي البشري، فكيف يمكننا امتلاك معرفة صحيحة عن الأحداث التي سبقت وجود الإنسان؟ هذه المفارقة تضع الارتباطية في مأزق منطقي عميق.  بالنسبة لكوينتين ميلاسو، فإن استبعاد المطلق ليس مجرد تقييد، بل هو تناقض صريح يقوض الطموحات الواقعية الأساسية للفلسفة ذاتها. ويمكن توضيح وجهة نظره كالتالي: إذا قبلنا الفرضية الارتباطية القائلة بأن كل الواقع لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال علاقتنا الذاتية به، فإننا نُجبر على التخلي عن فكرة الوصول إلى الأشياء كما هي في ذاتها، مستقلة عن تلك العلاقة. ومع ذلك، كما يُظهر نقد ميلاسو، لا يمكننا تجنب إصدار ادعاءات حقيقية حول وقائع مستقلة عن العقل، مثل حالة الكون قبل نشوء الوجود البشري أو الحياة. وهنا يكمن التناقض: فالارتباطية تتطلب نوعًا من الإيمانية غير المتماسكة، حيث تقوم بالفعل الميتافيزيقي نفسه الذي تصر على أنه وهمي ومستحيل. فهي من جهة تنكر إمكانية الوصول إلى الواقع المستقل عن الإدراك البشري، ومن جهة أخرى لا تستطيع تجنب الحديث عن هذا الواقع وإصدار أحكام بشأنه.

يرفض الواقعيون التخمينيون فكرة التأجيل المستمر للوصول إلى المطلق، إذ يرون أن قبول المقدمات الارتباطية يقود إلى خيارين غير مقبولين: إما التخلي عن الواقعية تماماً أو الاستسلام لإيمان غير قابل للاختزال. وينتقدون الارتباطية لأنها تقيد الفكر الفلسفي بالأبعاد الإنسانية المحدودة وتفرض رؤية مصطنعة للواقع تتمركز حول الإنسان، كما أنها تعجز عن التعامل مع الواقع المطلق المستقل عن الإدراك البشري وتمنع طرح الأسئلة الفلسفية العميقة والملحة. بالنسبة لهم، هذا التقييد يحد من قدرة الفلسفة على فهم وإدراك الواقع في استقلاليته المطلقة وأبعاده التي تتجاوز الفهم البشري.

وهكذا تمثل الواقعية التخمينية تحدياً جوهرياً للمفاهيم التقليدية في الفلسفة الحديثة، هادفة إلى تحرير الفلسفة من المركزية البشرية وتوسيع نطاق الدراسة الفلسفية لتشمل الواقع المطلق وتجاوز حدود الإدراك البشري. ورغم الجدل والانتقادات المحيطة بها، نجحت هذه الحركة في إحداث تأثير ملموس على الفكر الفلسفي المعاصر، مقدمة إسهامات مهمة في نقد الافتراضات التقليدية وإعادة طرح أسئلة كانت تعتبر محسومة، وفاتحة آفاقاً جديدة للتأمل الفلسفي في القرن الحادي والعشرين.

المشـاهدات 155   تاريخ الإضافـة 26/11/2024   رقم المحتوى 56276
أضف تقييـم