الخميس 2024/12/12 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 10.95 مئويـة
توفيق قادربوه: المسرح الليبي يحتاج إلى الحرية ودعم الشباب نجع الغيلان.. قراءة مسرحية في المجتمع الليبي والحرب
توفيق قادربوه: المسرح الليبي يحتاج إلى الحرية ودعم الشباب نجع الغيلان.. قراءة مسرحية في المجتمع الليبي والحرب
مسرح
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

حاملا معه آمال الكثير من المسرحيين الليبيين الشباب وأحلامهم، أطل المخرج توفيق قادربوه على جمهور أيام قرطاج المسرحية هذا العام، ليعرض "نجع الغيلان"، آخر أعماله المسرحية الذي يسلط فيه الضوء على تداعيات الحرب على المجتمع الليبي دون أن ينسى الخوض في المسكوت عنه من سلوكيات وأمراض نفسية وصراعات فردية وجماعية.ما الذي تغير في المجتمع الليبي منذ بداية الحرب إلى اليوم؟ وأيّ سلوكيات انتشرت بين أهاليه؟ كم من عائلة فقدت أبناءها برصاصة طائشة؟ وكم من شاب غرر به قادة ليلقى حتفه في ساحات الوغى تاركا خلفه أبا وأما يكادان يموتان بحسرتهما؟ كم من رجل باع ذمته ووطنه ليشتري مجدا فانيا بأشلاء أبناء الوطن الواحد وحتى أبناء القبيلة الواحدة والعائلة الواحدة؟ كم من فاسد أضر بالبلاد وتنكر لفعلته؟كل هذه التساؤلات يدور حولها العرض المسرحي الليبي “نجع الغيلان” للمخرج الليبي الشاب توفيق قادربوه الذي قدمه ضمن العروض الموازية المشاركة في الدورة الخامسة والعشرين لأيام قرطاج المسرحية. عرض قدمته فرقة البراقع المسرحية ببنغازي المتكونة من مروان العبار ومحمد الفرجاني وحاتم قرقوم وحسين منصور العبيدي وعمر اقوية وشاركهم فيه طلبة المعهد العالي للفنون المسرحية بتونس كمجاميع حركة.

 

السهل الممتنع

 

يجذبنا العمل المسرحي منذ عنوانه المركب من مفردتين للبحث في سر هذه التركيبة وإسقاطها على ما سينتظرنا طوال زمن العرض، وهنا انقسم العنوان إلى جزأين أولها “نجع” وهو مصطلح يشار به إلى المستوطنات البشرية الصغيرة التي بها عدد قليل من السكان، ويحمل تسميات كثيرة أخرى منها القرية، أما “الغيلان” فهي جمع “غول”، وتنتشر قصصها في الأساطير الشعبية المشتركة لعدد من الدول العربية ومنها ليبيا وتونس والجزائر، والغول هو كالشياطين  يتمثل للإنسان في أشكال متنوعة ويرتبط ظهوره عادة بكثرة حالات الموت من جراء الكارثة الأخيرة.إذن نحن أمام نجع/قرية، سنشهد فيها كيف يمكن للغيلان البشرية أن تفتك بأبنائه وأحلامه وبأرض النجع.ودون انسياق خلف البهرج والاستعراض الكبير للمؤثرات السمعية والبصرية، يقدم المخرج عمله بعناصر سينوغرافية واضحة، أولها إضاءة في عمق الخشبة على شكل باب وشباكين، دلالة على أحد المنازل، ثم تزداد عناصر الديكور مع حركة الممثلين، بعضها يترك على الخشبة ليتحول إلى ديكور دائم (عربة النفايات وأكياس النفايات). كذلك جاءت أزياء الممثلين، طبيعية كأزياء شخصيات كثيرة تشبههم في الواقع، أما ممثلو الحركة فارتدوا زيا موحدا وأقنعة وحملوا مضلات يوظفونها في حركاتهم الكوريغرافية.انطلاقا من حكاية الأب سليمان الذي يرثي ابنه نجيب ولا يتقبل حقيقة موته حتى يظن أهل النجع أنه جن وأصيب بمرض نفسي، يعيدنا قادربوه إلى ما فعلته الحرب في الأسر الليبية، مستخدما الموسيقى كمثير لعاطفة المشاهد، والتي تأتي ليبية بامتياز تذكر بالمراثي الليبية، ثم ينقلنا بسرعة نحو صراعات ممتدة أولها بين الأب المكلوم وعامل النظافة صابر، أين يتخذ الحوار بينهما بعدا أعمق يتجاوز العام نحو الخاص بالتفكير في مفهوم الأبوة والأمومة ومعنى التضحية والسلطة والأمراض النفسية. أما الصراع الثاني فيتركز بين الباشا عمران كبير النجع والشاب “الناجي” الناجي من الحرب برصاصة في الرأس وساق مبتورة تذكرانه دوما بما خسره من أحلام وآمال وأهل وأحبة.إنهما قطبان يصارعان جشعهما ورغبتهما في السيادة والتحكم والسيطرة على البلاد والعباد. يخوضان حوارات جريئة حول الوطن والحرية والحياة والهوية والسلطة.“مش أنا إلّي قتلك اخسر رجلك، نموت نموت ويحيا الوطن، احمد ربك وطنك عايش وحتى أنت مازلت عايش،” هكذا يخاطب الباشا عمران الناجي، ناطقا  بصوت كل من يتكبر على تضحيات الشباب الليبي من أجل وطنه، متعاليا على ما قدموه من دماء ومجسدين شعار “نموت نموت ويحيا الوطن” ليعيش الوطن وسراق الوطن.الناجي هنا هو شاب غير متعلم، اقتنع بضرورة رفع السلاح فرفعه حتى في وجه أقرب الناس إليه، جهله يمنعه حتى من أن يعترف بصالح ابن عمه (سيده باللهجة الليبية) عامل النظافة الذي يصر على نعته بـ”الزبال” وعلى التكبر عليه ورفض عمله، في حين ذلك العامل صالح يأتي نموذجا على الشاب الليبي المتعلم الذي رفض الانسياق وراء الحرب واشتغل في جمع النفايات بكرامته، حتى عثر على كيس نفايات يكشف كيف استغل الباشا عمران جهل أهل النجع ليسرق أرضهم ويبيعها للغريب/ للغيلان. وكما تنذر الغيلان بالموت، تنتهي المسرحية بفعل القتل، ذلك الفعل الشنيع الذي عانت منه أسر كثيرة في ليبيا.عمل يمزج بين الواقعية والتجريبية يمكن وصفه بالسهل الممتنع، يحمل شحنة من الحزن والألم على وطن ينهب من الداخل والخارج، عززه المخرج قادربوه بنص معبر اكتسب جماله من تكوينه الشعري وهو القادم للمسرح من الشعر الغنائي، إلى جانب أداء الممثلين الذي كان متناغما يحاول تجاوز مناطق الضعف خاصة وأن البعض منهم يجسد على الخشبة حكاية تشبهه.

 

حرية مسرحية أكبر

 

في لقاء جمعنا به إثر العرض المسرحي، يقول توفيق قادربوه إن “نجع الغيلان، أرادها أن تكون فضاء يتجمع فيه الفاسدون، من الأب الفاسد والجندي الفاسد والسياسي الفاسد وعامل النظافة الفاسد، وجميعهم يتهربون من مسؤولية ضياع الوطن، وقد اختصرت أحلامنا في أكياس القمامة التي يراها كل فاسد أنها من حقه لوحده، ويحمّل مسؤولية ضياعها للآخر أيا كانت هويته.”ويوضح “الخلاف كان كبيرا خلال الحرب الليبية، نتيجته الواضحة هي الشقاق والصدمة، تلك الصدمة وآثارها هو ما حاولت التركيز عليه في العرض المسرحي، لذلك كتبت النص وفق ضوابط مدرسة الواقع وأخرجته أيضا ضمن أبعاد الواقعية لكنني وظفت تقنيات مسرح التجريب في الإضاءة والموسيقى.”ويعود بنا المخرج إلى صفة “الزبال” التي حافظ عليها طوال العرض عوض استخدام عبارة “الكناس” باللهجة الليبية أو “المنظف” باللغة العربية، حيث يقول إنه أصر على توظيفها ليكشف “الشقاق الحاصل بين أفراد العائلة الواحدة، وكيف تعصف هذه الخلافات بتماسكها وقدرتها على الصمود في وجه الأزمات.” “نجع الغيلان” هو العرض الليبي الوحيد المشارك ضمن أيام قرطاج المسرحية في دورتها الخامسة والعشرين، وهو عرض مواز خارج المسابقة الرسمية، وكان فرصة لنحاور المخرج حول واقع الحراك المسرحي في ليبيا وسر اقتصار الحضور في المهرجان على العروض الجانبية. عن ذلك يقول قادربوه “الحراك المسرحي في ليبيا يشكو من المجايلة، والقطيعة الحاصلة بين الجيلين القديم والحديث، فالجيل القديم – إلا ما ندر – فاتهم قطار المسرح الحديث وليس لهم مشاركات كثيرة خارج ليبيا، لكن لديهم تمسك بالإرث الفني دون أن يقدم البعض منهم إنتاجا جديدا منذ تسعينات القرن الماضي، في المقابل هناك شباب جديد يحاول ويسعى سواء في المسرح الصامت أو غيره.”ويضيف “لدينا تجارب شابة أفتخر بها، وأنا واحد منهم، فأنا حديث العهد بالمسرح، جئته من الشعر الغنائي والقصة والسيناريو المتلفز، لقد تلبسني ‘غول المسرح‘ إلى درجة أنني أرفض عروضا تلفزيونية كبيرة ومهمة. وأعتقد أن التجارب المسرحية الحديثة في ليبيا بدأت تتطور رغم المناطقية، فهي أيضا تعاني من الانقسام، مثل تجارب في مصراتة وبنغازي.”وفي حديثه يشدد المخرج “نحن لا نحتاج فسح المجال للشباب فقط، وإنما افسحوا لنا مجالا لحرية أكبر، لا يمكن أن تمنح الشباب فرصة ممارسة الفن المسرحي وتقيد حريتهم في التعبير الفني ليجدوا أنفسهم داخل السجون. نحتاج إلى الدعم المادي الرسمي، في ليبيا لا يحظى الفن بالدعم المالي اللازم، وكذلك نحتاج إلى الحرية التي هي أهم من المال وكذلك البراح لنقول أفكارنا دون أن نواجه خطر السجن.”ولأن شعار أيام قرطاج المسرحية هذا العام “المسرح مقاومة.. الفن حياة”، اختير “نجع الغيلان” من بين 11 عملا مسرحيا ليبيا تقدم للمشاركة في المهرجان، وذلك لنصه المقاوم ضد كل أشكال الفساد، ويقول قادربوه إنه عمل “رافض للكثير من المشاكل والشقاق والفتن.”وهذه المشاركة الأولى له في المهرجان، يراها قادربوه أنها “حلم بالنسبة إليّ، حلم تحقق يحبو، لم يتحقق يمشي، نظرا إلى مشاركتنا في العروض الموازية وليس المسابقة الرسمية، وأتمنى أن تكون لي مشاركة في المسابقة مستقبلا. أيام قرطاج المسرحية تجربة جميلة، فالعالم كله يلتقي فوق خشبة المسرح، وفخر لي أن أمثل بلدي وأقدم حكاية ليبية أمام جمهور من مختلف العالم.”ويعود بنا هذا المبدع الليبي الشاب نحو بدايته مع الفن وخوضه تجربة نظم الشعر التي تبدو آثارها واضحة على تجربته المسرحية، حيث يقول “الشعر لم يمنحني تحديا كبيرا لموهبتي. ورغم أنني سجنت في عهد معمر القذافي بسبب قصيدة، فقد كنت أكتب الشعر الرافض، لكنني وصلت إلى مرحلة أشعر فيها بأن كتابة الأغنية لديّ سهلة جدا وهذا لم يعد يرضي غروري، لذلك توجهت نحو مجال أرحب هو المسرح والتلفزيون، ووجدت فيهما مساحة أكبر للحرية. الحقيقة، أن جميع عروضي المسرحية فيها الكثير من توفيق قادربوه الشاعر، فأنا أكتب النص دائما بلغة فيها الكثير من السجع والجناس والطباق. توفيق الشاعر لا ينفصل عن المسرحي هو موجود فيه دائما.”

 

 

حنان مبروك

المشـاهدات 204   تاريخ الإضافـة 02/12/2024   رقم المحتوى 56529
أضف تقييـم