ما وراء الحدث: استراتيجيات التبئير في (سباق الزوارق) للقاص كامل فرعون |
فنارات |
أضيف بواسـطة addustor |
الكاتب |
النـص :
الدكتور عادل الثامري تعد تقنية التبئير من الاستراتيجيات السردية المعقدة التي تحدد زاوية النظر وعمق الرؤية في النص السردي. في نص "سباق الزوارق"، تتجلى هذه التقنية بشكل متميز، حيث يتنقل السارد بين وجهات نظر متعددة - الشرطي، مهرب الخمور، والسارد نفسه - مما يخلق نسيجًا سرديًا متعدد الأبعاد. تكمن أهمية التبئير هنا في كشف التعقيدات النفسية للشخصيات وتعميق الفهم السردي، حيث يستخدم الكاتب تقنية التحول في وجهات النظر لإبراز التوتر والغموض المحيط بحدث السباق. سيركز هذا المقال على تحليل استراتيجيات التبئير في النص، وكيف ساهمت في إنتاج معنى سردي متعدد الدلالات. يتبين التبئير الخارجي في قصة "سباق الزوارق" بوضوح من خلال المنظور الكلي للسارد، الذي يمتلك القدرة على الإحاطة بمختلف جوانب الحدث والغوص في مكنونات الشخصيات. يظهر هذا جليًا في قدرته على تقديم وصف شامل للمشهد، بدءًا من وصف المكان - نقطة انطلاق السباق عند مرسى مركز الشرطة - مرورًا بتفاصيل دقيقة عن الشخصيات وحركاتها. يبرز التبئير الخارجي في وصف ضابط المركز، حيث يصف حالته النفسية بتفصيل دقيق: توزع عينيه بين ساعة يده واستدارة النهر، قلقه من الإمساك بمهرب الخمور، وحتى تفاصيل جلوسه على الكرسي يحتسي الشاي ويراقب الفعالية. هذه القدرة على الوصف الشامل تمنح القارئ رؤية متعمقة تتجاوز الظاهر إلى باطن الشخصيات. كما يتجلى التبئير الخارجي في القدرة على وصف مهرب الخمور بتفاصيل دقيقة: سيجارته في فمه، طريقة تجذيفه وحتى تفاصيل حركاته بعد انتهاء السباق - ربط بضاعته بحبال من صوف ناعم، وإلقائها في الماء، والجلوس على حصيرة من القصب. هذا التبئير الخارجي يمنح القارئ امتيازًا معرفيًا يتجاوز رؤية أي شخصية منفردة، فالسارد يمتلك العين المطلعة التي تحيط بكل التفاصيل والخفايا. وهو ما يخلق مسافة سردية تسمح للقارئ بالتأمل والفهم العميق للحدث والشخصيات. أما التبئير الداخلي في القصة فيبرز في التحول الدقيق بين وجهات نظر الشخصيات، مما يكشف عن التعقيدات النفسية والدوافع الخفية لكل شخصية. ففي شخصية الضابط، يبرز التبئير الداخلي من حالته النفسية المضطربة. نرى صراعه الداخلي بين الرغبة في القبض على مهرب الخمور وحرصه على الحصول على حصته المجانية من الخمر. وتتضح هذه الحالة في تصويره وهو يتأرجح بين مراقبة الساعة واستدارة النهر، مما يعكس حالة من القلق والتوتر الداخلي. أما بالنسبة لمهرب الخمور، فيظهر التبئير الداخلي في لحظات الثقة والتحدي. رغم مطاردة الشرطة، يحافظ على هدوئه، متلاعبًا بالمجذاف وكأنه ملعقة طعام. حتى في لحظة الهروب، يحمل سيجارته ويبتسم، مما يكشف عن شخصية واثقة ومتمردة. والسارد نفسه يقدم بُعدًا داخليًا مختلفًا. نلمس توتره الداخلي وهو يكتب القصة، بين رغبته في إثبات قدرته على الكتابة وذكرياته عن مسابقة القصة السابقة. يظهر هذا في وصفه لشعوره بعد كتابة القصة: "يداخلني شعور لا يتعلق بالدرجة، بل بقدرتي على الكتابة". تلعب تقنية التبئير الداخلي دورًا محوريًا في كشف التناقضات والصراعات الداخلية. فالضابط يبدو مسؤولًا رسميًا، لكنه في الحقيقة يسعى للمنفعة الشخصية. ومهرب الخمور يبدو مجرمًا، لكنه يظهر بمظهر البطل المتحدي. هذا التنقل بين وجهات النظر الداخلية يخلق عمقًا سرديًا غنيًا، يسمح للقارئ بالتغلغل في نفسية الشخصيات وفهم دوافعها المعقدة. فالتبئير الداخلي ليس مجرد تقنية سردية، بل هو مفتاح لفهم الأبعاد النفسية والاجتماعية في النص. يحتل السارد في قصة "سباق الزوارق" موقعًا معقدًا ومتعدد الأبعاد بين المشاهدة والسرد. فهو ليس مجرد ناقل للأحداث، بل شاهد متفاعل يحمل ذاكرة شخصية ورؤية نقدية للواقع. تتجلى هذه المفارقة في موقفه كطالب يسترجع قصة سمعها من والده، ويعيد صياغتها في لحظة كتابة مدرسية. تتأرجح المسافة السردية في النص بين القرب والابتعاد. فالسارد يقدم تفاصيل دقيقة كأنه شاهد عيان، رغم أنه ينقل القصة من مصدر ثانوي. يظهر هذا في دقة وصفه لمشهد السباق: موقع الضابط، حركة المهرب، تفاصيل النهر والرصيف. يتجاوز دور السارد مجرد السرد إلى التأمل والنقد. يظهر هذا في تعليقاته الضمنية على الحدث: وصفه للسباق بأنه "مجرد نشاط رياضي يكرس رتابة الحياة". وهي ملاحظة تحمل بعدًا اجتماعيًا نقديًا يتجاوز مجرد سرد الحدث. الغرابة تكمن في علاقة السارد بالنص. فهو يكتب القصة كواجب مدرسي، لكنه يشعر بفخر أعمق من مجرد الدرجة. يقول: "يداخلني شعور لا يتعلق بالدرجة، بل بقدرتي على الكتابة". هذا يخلق مستوى إضافيًا من التعقيد في المنظور السردي.وفي النهاية، يبدو السارد كشاهد-مؤول، يعيد تشكيل الحقيقة من خلال منظوره الخاص، مازجًا بين الواقعة المروية وتأملاته الشخصية. تعمل تقنيات التبئير في قصة "سباق الزوارق" على تفكيك البنية التقليدية للسرد، محولة النص من مجرد حكاية بسيطة إلى لوحة سردية متعددة الأبعاد. فالقصة لا تقدم حدثًا واحدًا، بل تقدم شبكة معقدة من الرؤى والتأويلات. تكمن الإبداعية في قدرة الكاتب على تفكيك المشهد السردي التقليدي. فبدلاً من تقديم رواية خطية، يخلق كامل فرعون فضاءً سرديًا يتحرك فيه القارئ بين وجهات نظر متعددة. الضابط، مهرب الخمور، والسارد - كل منهم يقدم زاوية مختلفة للحقيقة. هذا التعدد يكسر أحادية الرؤية ويدعو القارئ للمشاركة في بناء المعنى. ف لم يعد النص مجرد سرد، بل أصبح فضاءً للتأويل والاكتشاف. كل شخصية تحمل حقيقتها الخاصة، والتناقضات تصبح مساحة للفهم العميق للواقع الاجتماعي. التقنية السردية هنا تقارب الواقع بتعقيداته. فالشخصيات ليست بيضاء أو سوداء، بل رمادية معقدة. الضابط الفاسد، ومهرب الخمور الذكي، والسارد الطموح - كلهم يمثلون جوانب متعددة من الواقع الاجتماعي. وهكذا تتحول القصة من مجرد حكاية عن سباق زوارق إلى تأمل عميق في الهويات المعقدة، وفي طبيعة السلطة والمقاومة، والصراعات الداخلية التي تحرك البشر. والمفارقة الأكثر عمقًا تكمن في قدرة هذه التقنيات على تحويل لحظة بسيطة - سباق زوارق في نهر شعبي - إلى مساحة للتأمل الفلسفي والنقد الاجتماعي. |
المشـاهدات 22 تاريخ الإضافـة 28/12/2024 رقم المحتوى 57529 |