النـص : في أزقة المدن السورية التي هجرتها الحياة، وفي القرى التي غادرها أهلها بحثًا عن الأمان، تتردد أصداء الحنين للوطن. سوريا اليوم أمام منعطف تاريخي، ومع تشكيل حكومة جديدة، تبرز فرصة نادرة لإعادة بناء الوطن ولمّ شمل أبنائه بعد عقدٍ من الحرب الطاحنة. هذه الحكومة تواجه مسؤولية شاقة لترميم الجراح، وإعادة اللحمة الوطنية، وفتح أبواب العودة أمام ملايين اللاجئين.لكن سوريا ليست الدولة الأولى التي تواجه هذا النوع من التحديات. يمكن الاستفادة من التجربة العراقية بعد سقوط نظام صدام حسين، التي حملت دروسًا ثمينة حول كيفية مواجهة تداعيات الانقسامات السياسية والاجتماعية، والمخاطر التي تنجم عن غياب استراتيجية شاملة للمصالحة الوطنية وإعادة الإعمار.الحرب لا تُخلف فقط المدن المدمرة، بل تزرع انقسامات أعمق في نفوس الناس. السوريون، مثل العراقيين من قبلهم، عاشوا تجربة فقدان الأحبة، والنزوح الجماعي، والانقسام الطائفي والاجتماعي. إذا كان العراق قد شهد تفاقم الأحقاد بعد سقوط نظام صدام بسبب ضعف سياسات المصالحة والانتقام المتبادل، فإن سوريا أمام فرصة لتجنب هذه الأخطاء عبر تبني رؤية شاملة تعيد الثقة بين الشعب والحكومة.أن العدالة الانتقالية يجب أن تكون وسيلة لبناء الجسور، لا لتعميق الجراح. في سوريا من خلال إنشاء آليات مستقلة للمحاسبة تكون قادرة على معالجة الانتهاكات بحق جميع الأطراف، سواء من النظام السابق أو الجماعات المسلحة وتعزيز العفو المشروط مع التركيز على طي صفحة الماضي بطريقة تعيد كرامة الضحايا وتشجع على المصالحة و تجنب الانتقام.إعادة بناء سوريا لا تعني فقط إعادة إعمار البنية التحتية، بل تشمل إعادة بناء الثقة بين الأطراف المتنازعة. التجربة العراقية أظهرت أن إقصاء فئة معين أو تغليب فئة على أخرى يعمّق الانقسام لذلك يجب على الحكومة السورية العمل على ضمان حقوق المواطنين دون تمييز، وطمأنتهم بأن الماضي لن يتكرر. ولا بد من تعزيز الشراكات المحلية، خاصة في المناطق التي شهدت نزاعات عنيفة.كما هو الحال مع ملايين العراقيين الذين هُجروا بسبب الحرب، يتوق اللاجئون السوريون إلى العودة لمنازلهم. ولكن، كما علمتنا التجربة العراقية، العودة لا تعني فقط الرجوع إلى مكان ما، بل إلى وطن يشعر فيه الإنسان بالأمان والكرامة فيجب على الحكومة توفير ضمانات قانونية ودولية للاجئين العائدين، كي لا يشعروا بخطر الانتقام أو التهميش.المدن والقرى التي دمرتها الحرب بحاجة إلى إعادة بناء شاملة. العراق واجه تحديات في هذا المجال بسبب الفساد وضعف التخطيط، وهو ما يجب أن تتجنبه سوريا.الشباب السوري، هو الجيل الذي دفع الثمن الأكبر للحرب. أعوام من التعليم المفقود، والبطالة، والصدمة النفسية، تفرض تحديات كبيرة. ولتفادي فقدان هذا الجيل ينبغي إطلاق برامج تعليمية وتأهيلية لتوفير فرص تعيد الشباب إلى مسار الحياة الطبيعي. والاهم دعم الصحة النفسية لتجاوز آثار الحرب وإعادة دمجهم في المجتمع وإشراكهم في عمليات البناء السياسي والاجتماعي، كما أثبتت التجربة العراقية، فإن إقصاء الشباب يؤدي إلى فراغ قد تملؤه الأيديولوجيات المتطرفة.كما كان العراق بحاجة إلى علاقات دولية وإقليمية قوية لتخفيف حدة الصراعات، تحتاج سوريا إلى تعاون جاد مع دول الجوار والمجتمع الدولي وفتح قنوات الحوار الإقليمي مع دول مثل لبنان، تركيا، والأردن، لضمان عودة اللاجئين بشكل منظم.كما يجب الاستفادة من المجتمع الدولي لدعم إعادة الإعمار والمصالحة الوطنية، مع الحرص على وضع رؤية مستقبلية.تجربة العراق بعد سقوط صدام حسين مليئة بالدروس التي يمكن أن تستفيد منها سوريا. السلام ليس مجرد إنهاء الحرب، بل هو إعادة الحياة. سوريا اليوم أمام فرصة لتجنب أخطاء الماضي، وبناء وطن يسوده العدل والمصالحة والأمل. الحكومة السورية ووزير خارجيتها أمام تحدٍّ كبير، لكنه ليس مستحيلًا. إذا أُحسن استثمار هذه الفرصة، فإن سوريا ستنهض، لتصبح وطنًا للجميع، بلا خوف أو أحقاد، مليئًا بالسلام والمحبة.
|