الإثنين 2025/1/20 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 1.95 مئويـة
نيوز بار
عبد الهادي عباس فتنة التشكيل الجمالي
عبد الهادي عباس فتنة التشكيل الجمالي
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

ناصر أبو عون

مع الشاعر البابليّ عبد الهادي عباس ستوقن أن القصيدة معمار لغويّ، وتمّ تخطيط إحداثياته على عين الشاعر، وبطرائق خاصة، وكيف نجح في مراعاة مساقط الهواء كي تتنفس كائناته التي تسكن طوابق هذه القصيدة، مع الأخذ في الحسبان لانسكاب الضوء إلى مناطق الظلال والسراديب المعتمة لتنكشف الحقائق، في حضرة البصيرة، ثم نراه يراعي حركة رياح الغضب والرضا والخوف والطمأنينة التي تهبّ من النفوس هادئة حينا وعاصفة أحايين كثيرة؛ لذلك من العبث إغفال مواد البناء التي تشكّلت منه النصوص؛ بل اعتبارها كائنات تساهم في بثّ رسائل مشفّرة إلى القراء ومعانيها حمّالة وجوه؛ بل هي مجاميع وكورس من الوظائف المتواشجة والمعاني المركّبة التي بنى عليها شاعرنا نصوصه.[سقَطَت أوراقٌ شتّى..لمْ تتبقَ لهُ إلا مجموعة/أقراصٍ يتناولها عندَ الحاجةِ وبقايا/صورٍ تذكارية..قَدْ يهدأ..أو يهربُ منهُ العصفُ قليلاً..أو يهربُ منه..أو يتركهُ مندهشاً/عندَ محطاتٍ ماضيةٍ/يستمكنُ هذا الأفقَ بصبرٍ..فيدوخُ كثيراً..يحملُ عُدّتهُ..صوبَ فضاءاتِ الله الواسعةِ..ويعودُ بنصٍّ مبتسمٍ..يتوسدهُ شغفاً..من دونِ ضجيجٍ..وينام..]

لقد كان خيار عبد الهادي عباس في بناء لغته الشعريّة الانطلق من لغة واقعية، ومشهدية، لغة الشارع، لغة وسط تختبيء وراء الفصحى، ولكن ما إن تخلع ثوبها وتتعرّى تحت مرايا النقد سنجدها لغة تمشي على استحياء وتتدثّر بثوبٍ تراثي شفيف يكشف ما تحته، وربما يعود ذلك لنشأته الدينية ودراسته العلمية في تخصص اللغة العربية.. لغة تنطلق في كل توجهاتها، ورسوماتها، وتخطيطها من إحداثيات الواقع المُعاش، لتصنع واقعا جديدا يتوائم مع المفردات طوبوغرافية القصيدة الحداثوية من حيث التشكيل والشعرية والبناء. [سَأمشي وَحيداً إلى غَيمةٍ هاربةْ.. وَعينايَ خَلفي.. وَكفّي جناحٌ من الأسئلةْ.. وَزادي دخانٌ كثيفٌ..وَرَأسي كما الحافلةْ.. وَقَلبي انزياحٌ عجيبٌ لماكنةٍ تالفةْ..ومفتاحُ روحي/يسابقني إلى موضعٍ هادىءٍ باختصارٍ شديدٍ!!]

فضلا عن ذلك يمكننا اكتشاف العديد من الرموز المستترة خلف ظلال التشكيل الجمالي للصورة، مشحونة بطاقة إيجابية، وتحمل في طياتها مخزوناً خاصاً تضيفه حين تتحد مع الصور الشعرية المبتكرة. و(مثلما تجعل الصورة الرمز مشخّصاً محسوساً, فإن الرمز يمنحها البعد الدلالي الذي يختزنه). وتتبدى هذه التشخيصية في أوجّها في عناوين قصائد عبد الهادي عباس. فالرمز حين يتضام مع الصورة، يأخذ الناصّ/القاريء/المتلقي/الناقد إلى مناطق بعيدة عن الافتراضات المتوقّعة سلفًا؛ بل إنه ينقل ذهنية المتلقي وإحساسه من الزمان والمكان الذي نشأ فيه إلى عوالم ما وراء المعني فينمو ويتطور ويتبرعم، وعلى الجانب الآخر تسعى الصورة بقوة إيحاءاتها إلى إسقاط ذلك الرمز على الحياة المعاصرة[حُلُم ليلة البارحة/كانَ حَريصاً في تفسيرِالبعدِ الثالثِ خلفَ الباب.. ووديعاً في عدِّ الخطواتِ وصولاً للحجرةِ في حضرتِها.. يتأملها شوقاً.. ويرشُّ الماءَ بلطفٍ/ فوقَ مخدّتها.. الصمتُ يطوّقُ غفوتَها/ وهناكَ هناكَ/ بكلّ هدوءٍ مدَّ ذراعيهِ إليها..يتوسلها عبرَ حماماتٍ تحرسها.. فتلاشت!!/وأصابعهُ في الرملِ/بحجمِ وداع..!]

وأخيرًا يمكننا القول: إنّ مما يلفت الانتباه في شاعرية عبد الهادي عباس قدرته الفذّة وقبضه على جمرة الشعر، وتوظيفه للبنى اللغوية، منطلقا من طبعٍ شعريّ - لم تلوثه رغبة في التقليد، أو هوىً يبحث عن بقعة ضوء في مشهد عبثيّ داخل الساحة الشعريّة العربية التي تحوّلت عن سوق عكاظ كرمز للرصانة والإبداع إلى معاطن للإبل يختلط فيها الحابل بالنابل وتتناطح فيها رؤوس الشلليّة الفجّة-، إنه مازال يقبض بيدٍ من حديد كبريائه ونجح في الانفلات من الوقوع في فخ (إبهام العلاقات اللغوية)، والتي يقع فيها كثير من أدعياء  قصيدة النثر الذين جاءوا إلى الديوان الشعري العربيّ بلا خلفية تراثية، أو مرجعية تاريخية، أو رؤية فلسفية؛ بل هبطوا من سماوات الميديا الزرقاء على أرض الشعر فأكثروا فيها الفساد.[لماذا تغيّرتَ ياصاحبي..وصارَت حواليكَ تلك الضفافُ  مواويلَ عندَ الغروب؟لماذا تغيّرتَ؟قلتَ:- اتركوني لحالي وهذا الخراب اللعين..وصارَ المدى كتلةً من سرابٍ مخيفٍ..لماذا استدارت بكَ الواجهاتُ/وأنتَ الذي قلتَ:- (لم التفت) للضجيج وفوضى الزمان؟لماذا توكّأتَ شوقاً على حائطٍ مائلٍ من سراب؟/لماذا؟لماذا؟لماذا؟ونهرٌ من الحبِّ يجري/ وعندكَ فيضٌ من الامنياتِ/ لماذا؟ تعالَ نغنّي بحنجرةٍ لا تملّ الغناءَ..تعالَ..نكوّن جسراً من الحالمينَ/ونمضي لمنعطفِ الشِعرِ/نبني لنا واحةَ العشبِ بين الحمام..!!]

المشـاهدات 29   تاريخ الإضافـة 19/01/2025   رقم المحتوى 58197
أضف تقييـم