الإثنين 2025/2/3 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 18.95 مئويـة
نيوز بار
عبء السير نحو المجهول سعدون جبار البيضاني..ساردا
عبء السير نحو المجهول سعدون جبار البيضاني..ساردا
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

 

إشارة تعريفية/شوقي كريم حسن

النص يشكل لوحة سردية مشحونة بالدلالات الإنسانية التي تنبض بقسوة الواقع وتغرق في مأساوية التفاصيل اليومية. الشخصية المحورية تتحرك على حافة الحياة، محاطة بإحباطات وجودية تتكثف عبر رمزية الأشياء والأحداث التي تعيشها. تلك التفاصيل الدقيقة، من خسفة الرصيف إلى الحذاء المطاطي الملتصق، تبني عالماً غارقاً في البؤس، حيث تتحول الأشياء اليومية إلى رموز لمعاناة الفرد الذي يواجه هشاشة الواقع دون دروع.

الرجل، الذي يرسمه النص بعين دقيقة، يقف عند حافة الكرامة المهدورة، حيث الخجل يلامس وعيه، ليصبح ضحية لمعادلة يومية لا مكان فيها للتوازن. الحوار الذي يدور مع الرجل الأصلع يفتح نافذة على وعي مضطرب يحمل أسئلة كبيرة عن الإنسان والمجتمع والقيم. الجملة التي تتساءل عن فساد الملح تحمل في طياتها إشارة إلى انهيار الأساسيات، حيث تصبح الأخلاق والإصلاحات ذاتها عرضة للفساد.في اللحظة التي ينشغل فيها بحل الكلمات المتقاطعة التي التقطها من بين النفايات، يبرز تناقض صارخ بين محاولته للبقاء داخل فضاء معرفي وبين محيطه الذي يغرقه في احتياجاته البدائية. الشارع الفارغ والرصيف الذي أصبح فائضاً عن الحاجة يرمزان إلى الفراغ الاجتماعي والروحي، حيث الأشياء تفقد معانيها أمام غياب الجدوى.الإيقاع السردي يتصاعد مع حرارة اليوم، التي تنعكس على أعصابه وبضاعته وحتى جسده، حتى يصل إلى لحظة التمني البسيط: كوب ماء. هنا، تتحول الاحتياجات الصغيرة إلى مطالب كبرى، إذ يصبح العطش تمثيلاً لحرمان متجذر. تفاصيل كتف الحقيبة وتبديلها، ثم الخطوات المحاذية للحيطان، تحمل رمزية الانكسار الجسدي والنفسي، لكنها تؤكد أيضاً استمرارية السير رغم كل شيء.حين يقرر رمي الحقيبة والمضي حافياً، تفتح هذه اللحظة المجال للتأمل في فكرة التخلي والتحرر. التخلص من الحقيبة لا يعبر عن الهزيمة، بل ربما هو فعل احتجاج صامت ضد عالم لا يمنحه فرصة للحياة بكرامة. مشهد المشي المستمر بلا تفكير في التوقف يترك القارئ أمام صورة إنسان يحاول تجاوز ألمه دون أن يتخلى عن الحياة، حتى لو لم تعد تلك الحياة تحتفظ بأي معنى واضح. النص يلامس أعماق التجربة البشرية، حيث يصبح الفرد مرآة للحرمان الجماعي في مجتمعه، ويطرح سؤالاً أزلياً عن معنى البقاء في ظل العدم. السرد في النص يتجاوز التفاصيل اليومية ليعبر عن قلق وجودي عميق. الشخصية ليست مجرد إنسان عابر، بل هي تمثيل رمزي لإنسان مغلوب على أمره في مواجهة قسوة الحياة. تفاصيل مثل اتساع الجيب وفقره المستمر تعكس عبثية العالم الذي يسكنه، حيث المساحات الواسعة فارغة، والاحتياجات ملحة لكنها غير مستجابة.المشي المستمر يعكس حالة اللايقين؛ هو ليس سيراً نحو هدف، بل حركة لا إرادية تهرب من الركود. التحديق في الأبواب والشبابيك والأشجار ليس فقط تفحصاً للمحيط، بل بحث عن أمل خفي، عن تفسير للحالة التي يعيشها. هنا، يتحول النص إلى رحلة استبطانية، حيث الأشياء المحيطة تصبح أصداء لداخل الشخصية المأزومة.حين يختم النص بمشهد المشي الحافي، يكمل دورة التحرر من الأعباء. الحذاء المطاطي الذي كان يعيق حركته يصبح صورة للقيود التي يقرر كسرها، حتى لو كان الثمن المواجهة المباشرة مع الأرض الحارقة. النص يختار ألا يقدم حلاً أو نهاية تقليدية، بل يترك الشخصية في حالة حركة مستمرة، وكأنها تُترك لتقرر مصيرها، أو ربما لتستمر في الدوران داخل دائرة لا بداية ولا نهاية لها.

هذا النص، بقسوته الشديدة وعمقه الرمزي، يعكس قوة السرد عند سعدون جبار البيضاني في رسم صورة المجتمع المهشَّم عبر تفاصيل فردية شديدة الإنسانية. هو شهادة على هشاشة الإنسان، لكنه أيضاً احتفاء بقدرته على الحركة، ولو في مواجهة عبثية الحياة. النص ينغمس في تصوير العلاقة بين الفرد والعالم، تلك العلاقة القائمة على الصراع بين البقاء والاندثار. مشهد المشي الحافي، بما يحمله من رمزية، يعيد القارئ إلى جوهر التجربة الإنسانية: السير في طريق محفوف بالمعاناة، حيث كل خطوة تثقلها العوائق، لكنها تمثل أيضاً رفضاً للاستسلام. لا يتوقف النص عند فكرة الفقر المادي فقط، بل يغوص عميقاً في الفقر الروحي والاغتراب الذي يشعر به الإنسان وهو محاصر بين احتياجاته وتناقضات محيطه.التكرار في الأفعال اليومية للشخصية، مثل تبديل الكتف الذي يحمل الحقيبة أو محاولة تقديم أعذار للتأخير، يعبر عن نمطية مرهقة تعكس واقعاً بلا جديد. حتى أفكاره عن بيع حاجة ما أو ركوب الباص ليست سوى أوهام بسيطة يستعين بها للاحتماء من واقع لا يترك له متنفساً. هذا التكرار لا يعكس فقط الروتين، بل يكرس شعوراً بانعدام الأمل.حين يرمي الحقيبة في الشارع ويمضي، يتحول النص إلى بيان وجودي؛ الحقيبة التي حملت كل ما يملك تصبح عبئاً تخلى عنه في لحظة وعي عفوي. هذا التخلي لا يعبر فقط عن التحرر من ثقل مادي، بل عن محاولة للخروج من قيد نفسي، وكأن التخلص من الحقيبة خطوة نحو استعادة الذات، حتى لو جاء هذا التحرر في لحظة ضياع مطلق النهاية، حيث يستمر الرجل في المشي دون توقف، تحمل في طياتها قوة رمزية شديدة. الحركة المستمرة ليست بالضرورة بحثاً عن مخرج، بل هي استجابة فطرية للحياة ذاتها، رغبة في الاستمرار رغم كل ما يعترض طريقه. النص لا يقدم حلولاً، لكنه يفتح أبواب التأمل، يدفع القارئ للتساؤل عن مصير الإنسان حين يصبح مجرد ظل لنفسه، وحين تتحول حياته إلى سير دائم بلا أفق واضح. هذه النهاية تجعل من النص مرآة لحالة وجودية، حيث يبقى الإنسان محكوماً بالسير نحو المجهول، مهما كان الطريق موحشاً.

المشـاهدات 37   تاريخ الإضافـة 31/01/2025   رقم المحتوى 58642
أضف تقييـم