
![]() |
بين التمن والريزو... إلى أين تمضي أطباقنا التراثية؟ |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص :
أمَّي كانت تحكي للرز فينضج
أما نحن الصبيان
فندخل هذا المطبخَ
هذا العالمَ
نسرق ماعون الرز
ونكسر أقداح الشاي
فنُشتَمُ مطرودين
ونضحك وسع العالم
مطرودين ونبتهجُ
اما الانْ
بعد دخول النقالْ
المطبخ تهجره النسوةُ
والمطبخ لا يعرفه الأطفالْ
لا يُطبخُ شيءٌ في هذا البيت
وباردةٌ كلُّ الأكلاتْ
الرزُّ يجيء مع الطلباتْ
تلك الأبيات للشاعر عارف الساعدي تعبر ببلاغة عن التغيرات العميقة التي طرأت على الحياة اليومية في المجتمع.في العراق، لا تُعدّ الأطعمة مجرد وجبات تُطهى لسد الجوع، بل هي فصول من كتابٍ طويل يَّحكي قصة المكان وأهله، ومرآة تعكس تنوع هذا البلد الكبير من جباله إلى أهواره، ومن هضبته إلى بساتينه على ضفاف دجلة والفرات، وكما تتغير ملامح الأرض تتبدل النكهات والروائح للأطباق مشكلةً فسيفساء غذائية تحمل بصمة كل بيئة وكل مجتمع وكل إرث ثقافي عريق استقر في هذه الأرض منذ آلاف السنين. إنه مطبخ لا تحركه وصفات جامدة بل هوية تتشكل عبر الأزمان تعبر عن العادات والتقاليد وأساليب العيش وحتى عن القيم والمعتقدات التي ترسخت في الذاكرة الجماعية لمجتمعهِ المتنوع. ففي بغداد مثلاً، تلتقي الحضارات وتتداخل الهويات فنجد المائدة انعكاساً لهذا المزيج الفريد، تتنوع المائدة الصباحية بوجبات رئيسة اعتادتها معظم مطاعم المدن العراقية، فالكاهي بالگيمر طقس يعكس عشق العراقيين للحلاوة، والباگلا بالدهن مع البطنچ والنارنج العراقي قصة بذاتها، والتكة والكباب والمعلاك من الاساسيات ، أما الباچة الطبق الغني بالطاقة لضرورات العمل الطويل فضلاً عن كثير من الاطباق الأخف وطأة كالمخلمة والكبة البغدادية والجلفراي، وتزداد قائمة الغداء تنوعاً فنجد البرياني البغدادي بطابعه الهندي الذي صبغته توابل العراق بطابعها الخاص، والمسكوف البغدادي المتنوع ما بين اسماك الشبوط والكطان والبني والكارب و اطباق القوزي الذي لا غنى عنه في المطاعم العراقية والدليمية التي امتدت من الانبار والطرشانة التي اشتهرت بها ديالى والدولمة التي اشتهر بها التركمان وانتشرت في عموم المطبخ العراقي باختلاف مكوناتها وايضاً مطبگ الباقلاء أو الجزر بالرز واللحم ، ومع تنوع المرگ الذي ينفرد به المطبخ العراقي وجميع هذه الاطباق الرئيسية لا تخلو مائدتها من الطَرشي الذي يحمل مزيج النكهات كما تحمل بغداد إرث التنوع السكاني في شوارعها بلهجاتها المتعددة ما يجعلها أكثر من مجرد طعام، بل تجربة اجتماعية متكاملة. وفي الشمال، تتجلى المهارة والابتكار في المطبخ الموصّلي إذ تتربع الكبة بأنواعها المتعددة على عرش الأكلات التراثية، و هناك من يذهب بعيداً ليسجل الكبة كماركة للأكلات الاشورية قبل الاف السنين التي تعكس البراعة في تنويع مكونات الطبق نفسه وفق ذائقتهم المحلية وتزيدها لذة اللهجة الموصلية ومن أشهرها "كبب كباغ، كبب جـغش، كـبب غـز، كبة حامض، وكبة قيسي"، وأكلات اخرى كالعغوق واللحم بالعجين والقلّية و الشفتة وشوربة الحسو والحنينيي والباسطرمة، التي تمثل بمجملها جزءاً أصيلاً من الثقافة الغذائية الموصليّة. وفي الجنوب، حيث الماء عنصر الحياة الأول، تعكس الأطباق صلته العميقة بالمجتمع سواء من الانهار او الاهوار او الخليج، فنجد السبور مع التمن الاحمر ومطبگ الروبيان وقائمة الاسماك تطول من ثمار البحر والسمك المشوي بانواعه والمسموطة والتثخانة والمعلوگة الى الى كافيار العراقيين كما يحب أن يسموه أهل الجنوب "الخشني - الزوري - الشوچي - الحرش - ابوزريده - ابوخريزه" وما أطيب هذه الاكلات مع السياح او الطابگ الحويزاوي، فضلاً عن مطبگ الطير الحر بتنوعه " الخضيري ، أبو بسيلة ، الحذاف، الانگوض ،….. " مع التمن العنبر ، انها ليست أكلات مجردة بل هوية ثقافية راسخة في أذهان العراقيين والتي يتشاركها الجميع في الوقت الذي تجسد فيه تراث الصيادين وسكان الأهوار الذين اعتمدوا على هذه الخيرات منذ الأزل. أما النجف، التي تُعرف بتاريخها العريق، فقد تميزت بأطباق خاصة بها مثل القيمة النجفية، التي لم تكن مجرد خليط باللحم والحمص والتوابل بل أصبحت طبقاً مرتبطاً بالطقوس الدينية ويضاف لقائمتها الآش النجفي والهريسة الكربلائية والزردة والبحت ، كما تعد أكلة الفسنجون النجفية إحدى الأطباق ذات الجذور الإيرانية، لكنها تطورت في المدينة لتأخذ طابعاً محلياً، فتم تعديل مكوناتها لتناسب الذوق النجفي، وهذا ما جرى ايضاً على السبزي (مرق السبانغ) مما يعكس قدرة المطبخ العراقي على استيعاب التأثيرات الخارجية وتحويلها إلى جزء من هويته الخاصة. اما اطباق الحلويات فليس هناك ما ينافس من السما في السليمانية والبقلاوة البغدادية و الدهينة النجفية وحلاوة نهر خوز من البصرة فضلاً عن حلاوة الحليب والداطلي والكليجة او الكاكول والقائمة تطول ….في خضم هذا التنوع الغذائي العريق، يواجه المطبخ العراقي تحدياً كبيراً، يتمثل في موجة التغييرات التي طالت العديد من أطباقه بسبب التأثيرات الأجنبية المتزايدة، فمع انتشار المطاعم العربية والغربية والآسيوية، بدأ الجيل الجديد يفقد الارتباط ببعض الأكلات التراثية، إذ بات التمن العراق الذي كان ولا يزال جزءاً لا يتجزأ من المائدة اليومية، يُطلق عليه في بعض المطاعم الحديثة اسم "ريزو"، وكأن تغييره جزء من مسايرة العصر، بينما هو في الواقع طمس تدريجي لهوية غذائية أصيلة. الأمر ذاته ينطبق على الحلويات التراثية مثل الدهين النجفي، الذي طالته تغييرات غير مألوفة كإضافة الجبن وغيره من النكهات الدخيلة، بحجة التجديد والتطوير. كما أن بعض الأطباق التقليدية، مثل الكبة الموصلية بدأ يتم تقديمها بأساليب بعيدة عن طريقتها الأصلية، ولم تسلم الباچة ايضاً من هذا التحديث فصارت تقدم بطرق غريبة وهنا استذكر بمخيلتي خبز العروگ من تنور الطين ولا اعرف ان كان هو ألذ أم البيتزا ؟ إن العولمة ليست سلبية بالمطلق، فقد جلبت معها تنوعاً غذائياً واسعاً وجميل ، لكن التحدي الحقيقي يكمن في كيفية الحفاظ على خصوصية المطبخ المحلي ولا سيما في الاماكن العامة والمطاعم التي تقدم للمواطن والسائح رمزية المكان ودلالته، وسط هذا التغير السريع تحرص دول كثيرة على حماية أطباقها التراثية والترويج لها عالمياً مما يعكس تراثها وتكون عامل جذب للسياحة بما تحمله في مذاقها من تاريخها لتكون بوابة لاكتشاف هوية الشعوب وحكاياتهم ، ويصبح المطبخ ساحة لقاء بين الماضي والحاضر وجسراً بين الثقافات ومصدر جذب لا يقاوم.إن الحفاظ على الموروث الغذائي ليس مجرد مسألة تفضيل شخصي، بل هو جزء من مسؤولية جماعية لتعزيز الهوية الوطنية والتراث الثقافي. ويمكن تحقيق ذلك من خلال تعزيز الوعي بالمطبخ المحلي داخل العائلات وتعريف الأجيال الجديدة به، إلى جانب البرامج التلفزيونية والمنصات الرقمية والمهرجانات الغذائية التي تحتفي بالأكلات التراثية وتشجع على تذوقها وفهم تاريخها.وفي الوقت الذي تخطو فيه دول كثيرة خطوات كبيرة في الترويج لمطبخها التراثي عالمياً، كإيطاليا التي نجحت في جعل "البيتزا" و"الباستا" أيقونات عالمية، أو اليابان التي حولت "السوشي" و"الرامن" إلى أطباق معروفة في كل القارات وكذا الحال لعدد من الاطباق العربية كالمندي اليمني والمنسف الأردني … ، لا يزال العراق متأخراً في إبراز هويته الغذائية الفريدة، المطبخ العراقي لا يقل غنىً عن أي من هذه المطابخ، بل ربما يفوقها عمقاً وتأريخاً، لكنه بحاجة إلى دعم حقيقي في المحافل الدولية.يمكن أن يتحقق ذلك من خلال دعم المطاعم العراقية الأصيلة وتشجيع الطهاة المحليين على المشاركة في المسابقات والمهرجانات العالمية، إضافةً إلى إدراج بعض الأطباق العراقية في قوائم الطعام في المطاعم الدولية. ففي كل لقمة عراقية، هناك قصة تُروى، وفي كل نكهة هناك بصمة لماضٍ ممتد منذ آلاف السنين وبصمة لهوية محلية ترتبط بالمكان وبالمجتمع الذي صنعها وأضفى عليها لمساته. |
المشـاهدات 97 تاريخ الإضافـة 19/02/2025 رقم المحتوى 59534 |

![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |