
![]() |
المكان والجسد في قصيدة "بيت كالحصان" للشاعر هاشم تايه |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص :
الدكتور عادل الثامري مقدمة تقدم قصيدة "بيت كالحصان" للشاعر هاشم تايه مفارقة لافتة في استعارتها المركزية: المسكن - الذي يرمز تقليدياً إلى الاستقرار والديمومة والتجذر - يتحول إلى كائن في حالة حركة محمومة. تعمل قصيدة هاشم تايه ضمن شبكة معقدة من الحقول الدلالية المترابطة، مشكِّلةً بنيةً شعريةً متعددة الأبعاد تتلاقى فيها العناصر المكانية والجسدية والزمنية وتتصادم. الحركة والمطاردة تتمحور القصيدة حول شبكة دلالية للحركة، تتجسد في معجم حركي ثري يهيمن على البنية اللغوية للنص. يفتتح الشاعر قصيدته بفعل أمر استهلالي "قف يا بيتي!"، منشئاً بذلك توتراً بنيوياً بين ثنائية الثبات/الحركة، ومؤسساً لجدلية المطاردة التي تشكل العمود الفقري للقصيدة. هذا الأمر بالتوقف - الذي يظل معلقاً ولا يتحقق - يكشف عن المفارقة الأنطولوجية الأساسية: البيت، رمز السكون والاستقرار، يتحول إلى كائن متمرد على وظيفته الوجودية الأصلية. تتشكل الحقول الدلالية للحركة عبر تراكم دوال مترابطة: "تعبت من الركض"، "تركض بقدمّي.."، "كأنك تعدو"، "قدميك الراكضتين"، "قدميكَ الطائرتين". هذا التراكم الدلالي المتصاعد ينتقل من حركة أفقية (ركض) إلى حركة عمودية (طيران)، مؤسساً لتحول في طبيعة المطاردة. يلاحظ هنا استخدام تقنية التغريب الدلالي، التي يُسند الشاعر عبرها للبيت صفات حركية تتناقض مع ماهيته المستقرة، وبذلك يخلق صدمة إدراكية تجبر المتلقي على إعادة تشكيل الأطر التصورية المعهودة. يتجلى التوظيف البارع للمعجم الحركي في خلق تمفصلات زمنية متعددة. يرصد الشاعر أبعاداً زمنية متداخلة للمطاردة: "منذ أمس"، "الايام تتساقط"، "كالذكرى في متاهة النسيان". تتحول المطاردة من حدث آني إلى حالة وجودية ممتدة؛ وتتداخل هنا الدلالات الزمنية مع الدلالات الحركية لتشكل حقلاً دلالياً يتجاوز البعد المادي للمطاردة إلى بعدها الاستعاري كمطاردة للذات والهوية والذاكرة. ويستثمر النص التقابل الدلالي بين حركة المطارِد وحركة المطارَد، ليخلق توازياً حركياً متناقضاً: "ألهث خلفك بأنفاس طير يحترق". هذا التوازي المتناقض يحمل خاصية التعايش الضدي، اذ تحضر متلازمات حركية متضادة في آنٍ واحد. وتتحول المطاردة إلى علاقة جدلية ينمحي فيها التمايز بين الذات وموضوعها. تشيئ الجسد وأنسنة البيت تتجلى في قصيدة "بيت كالحصان" شبكة دلالية معقدة من التجسيد والتشخيص، اذ يعمد الشاعر إلى خلق تبادل أنطولوجي بين مفهوم البيت والكيان الجسدي. هذا التداخل يؤسس لما يمكن تسميته بـ" التمازج الجسدي-المكاني" تنمحي فيه الحدود الفاصلة بين جسد الذات وكيان البيت لصالح هوية تجسيدية هجينة. تتأسس هذه الشبكة الدلالية على استعارة تجسيدية مركزية تتفرع عنها استعارات فرعية. يقول الشاعر: "وأنت تركض بقدمّي أفريقّياً تطارده الغابات"، نجد هنا حالة من الإزدواج الجسدي، بحيث تصبح أطراف الذات (القدمان) متداخلة مع وجود البيت، بل وتفعل فعلها من خلاله. هذا التداخل يكشف عن ظاهرة "تشظي الجسد" التي يفقد فيها الجسد وحدته العضوية ليصبح مجموعة من الدوال المتناثرة. يوظف النص تقنية التشخيص المكثف للبيت، منتقلاً به من حالة السكون والسلبية إلى حالة الفاعلية والإرادة: "احذر! ستسقط من على جسر" و"احذر! سيرتطم بك قطار" و"احذر! ستقع على ركبتيك". هذه الإنذارات المتتالية تشكل نسقاً خطابياً يؤكد الأهلية الأنطولوجية للبيت كذات فاعلة تمتلك قدرة على الاختيار والفعل، مستحضرًا بذلك مفهوم 'الفاعلية المادية' كما تتجلى في فلسفة ما بعد الإنسانية. تتعمق ظاهرة التجسيد عبر استعارة الدم كمادة رابطة بين الجسد والمكان: "من جسدك تبزغ أمهات الدماء"؛ تشكل هذه العبارة مفصلاً دلالياً محورياً في شبكة التجسيد بالقصيدة. التركيب الإضافي "أمهات الدماء" ينطوي على استعارة مركبة تجمع بين دلالة الأصل (الأمومة) ودلالة الحياة/الموت (الدم). يصبح الدم حاملاً للذاكرة والهوية، مجسداً "الذاكرة المادية" - تلك الذاكرة المتجسدة في المواد والأشياء. تتعالق هذه الاستعارة مع صورة "جذورك العتيقة" لتشكلا نسقاً دلالياً للاقتلاع والتمزق الوجودي. بذلك تتحول المادة (الدم) إلى عنصر مؤسس للتجربة الشعرية والوجودية في آن. نجد أيضاً تمفصلاً دلالياً آخر للتجسيد عبر استعارة القلب: "ويخترق قلبك الشارد" و"ضاربا قلب الطريق" و"وانت، بقلبك الراكض، تمضي". هنا يعمل القلب كمركز دلالي يربط بين الذات والمكان، منتجاً ما يمكن تسميته بـ "تداخل الأجساد الرمزية يستثمر الشاعر الطاقة الإيحائية للقلب كرمز مزدوج للمركزية (الجسدية والمعمارية)، ليحقق التمازج الدلالي بين جسدانية الإنسان ومادية البيت. تتجلى ذروة التجسيد في تحويل البيت إلى جسد متألم عبر استعارة "اعبئ صرختك المكسرة في ثيابي". تتحول الصرخة من حدث صوتي عابر إلى مادة ملموسة قابلة للكسر والتعبئة، مجسدةً ظاهرة "تشيئ المجرد" التي تميز الخطاب الشعري الحداثي. تكتمل هذه الشبكة الدلالية للتجسيد بالمشهد الاستعاري المركزي "يطارد كالحصان بيته الهائم"، الذي يعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والمكان وفق نموذج استعاري مقلوب: البيت/الحصان، الإنسان/الفارس، منتجاً ما قلبا في التراتبية، اذ تنقلب الأدوار التقليدية ليصبح المسكِن متمرداً والساكن مطارِداً، ما يؤسس لحالة من اللا استقرار الدلالي التي تقوّض النظام المألوف للعلاقات الوجودية وتكشف عن التوتر العميق بين الذات ومكانها الأصلي. الانقلابات المكانية تتمفصل في قصيدة "بيت كالحصان" شبكة دلالية للعلاقات المكانية تعمل على تقويض مفهوم المكان بوصفه بنية مستقرة، وإعادة تشكيله كفضاء ملتبس تخترقه انزياحات وتحولات متواصلة. يؤسس النص لما يمكن تسميته بـ"طوبولوجيا الاختلال"، تنهار فيها العلاقات المكانية التقليدية لصالح نظام يتسم بالسيولة والتشظي. تتجلى هذه الشبكة الدلالية في سلسلة من الثنائيات المكانية: الأعلى/الأسفل، الداخل/الخارج، المركز/الهامش. يقول الشاعر: "احذر! ستسقط من على جسر"، ما يستدعي دلالة السقوط العمودي التي تتجاوز البعد المادي للسقوط إلى دلالته كانهيار وجودي، ليصبح الجسر استعارة للمعبر الفاصل بين عالمين. تتعمق دلالة الانقلاب المكاني عبر استعارات التعالق المكاني المتداخل في قوله: "الى بحر تحت هذا البحر، / وجبل في أعماق ذاك الجبل، / وسماء وراء تلك السماء"، ما يؤسس لبنية مكانية متناسخة تتسم بالتضاعف اللانهائي، وهذا يذكر بمفهوم "التكرارية الفراكتالية" (fractal recursion) في نظريات الفوضى. يوظف النص صورة العبور المكاني غير المكتمل في قوله: "بلا مجذاف في بحار الطرقات عبر الرعب"، اذ تتداخل استعارتان مكانيتان: البحر والطريق، لتشكلا فضاءً هجيناً ينتمي إلى نظامين مكانيين متناقضين. هذا التداخل يكشف عن حالة من "الارتباك الطوبولوجي"، التي تتأسس على انمحاء الحدود الفاصلة بين أنماط الفضاء المختلفة، ما يعزز حالة من التيه الوجودي. كما تظهر الشبكة الدلالية للانقلاب المكاني أيضاً في تحويل الأماكن العامة إلى فضاءات غير مستقرة كما في تعبيرات مثل "المدن تفقد نفسها" و"المدن السائلة". ويستثمر النص التضاد الدلالي بين الانغلاق والانفتاح في عبارات مثل: "في الوحول، / وعلى الأشواك، / في البراري المديدة، / وفي المدن السائلة". يؤسس هذا التضاد لحركة تأرجح بين فضاء الانحصار الضيق (الوحول والأشواك) وفضاء الانفتاح الشاسع (البراري)، وهذا يولّد توتراً مكانياً يعكس التوتر الوجودي للذات الممزقة. تستدعي هذه الثنائية المكانية مفهوم "الديالكتيك المكاني" الذي يشكل فيه المكان موقع صراع دائم بين قوى التقييد وقوى الانعتاق. يتسع هذا الصراع في النص عبر استثمار عميق لاستعارة الطريق: "ضاربا قلب الطريق" و"الطرق" و"قارعات الطريق". والطريق هنا أكثر من مجرد فضاء للعبور، انه يشكل فضاءً وجودياً تتشكل فيه هوية الذات وعلاقتها بالعالم. حقل المشاهدة والإدراك تتشكل في قصيدة "بيت كالحصان" شبكة دلالية غنية تتمحور حول فعل المشاهدة والإدراك، تعكس حالة من تعدد المستويات البصرية والسمعية التي تؤطر تجربة المطاردة. تتجلى هذه الشبكة الدلالية في تعدد الذوات المُدرِكة: الذات الشاعرة، والمجتمع المراقب، والطيور المتأملة. يقول الشاعر: "والناس ورائي تصيح: / انظروا الرجل الشقي / يطارد كالحصان بيته الهائم..." هنا يتأسس موقع إدراكي ثالث، هو موقع الآخر الذي يراقب المشهد من الخارج، ما يوسع المنظور الإدراكي ويخلق حالة من التبئير المتعدد. هذه الجماعة المراقبة تمثل العين الاجتماعية التي تصنف وتؤطر وتحكم كآلية للضبط الاجتماعي. يضيف النص مستوى إدراكياً آخر يتمثل في رؤية الطيور: "الطيور تخطف فوق هامتك بأجنحة ذاهلة / واعناقها تصيح: / أي طير يرفع هذا الحجر؟ / أية شجرة سترحب به؟" هذا المنظور يتجاوز المستوى الإنساني إلى مستوى ما فوق إنساني، او ما يسميه ميرلو-بونتي بـ"اللحم المشترك"- تلك الحالة من التواشج الإدراكي بين الكائنات كافة. أسئلة الطيور تؤسس لاستحالة إدراكية تتجاوز حدود الممكن الطبيعي، وتعكس حالة الذهول أمام الظاهرة غير المألوفة. تتعمق شبكة الإدراك عبر حقل دلالي سمعي: "على فمك غصن صرختي" و"اعبئ صرختك المكسرة في ثيابي" و"اناديك فلا تلتفت، / وأدعوك فلا تقر لك قدمان.." هذه الدوال السمعية تشكل شبكة من النداءات والصرخات التي تظل دون استجابة. تتحول الصرخة هنا من كونها فعلاً صوتياً إلى مادة قابلة للتشيؤ والكسر والتعبئة، ما يمنحها حضوراً مادياً يتجاوز طبيعتها الصوتية. يستثمر النص استعارة الإدراك الإلهي: "وارى بعين إله حزين". هذه الاستعارة تؤسس لرؤية متعالية تتجاوز حدود الإدراك البشري، لكنها رؤية مثقلة بالحزن، وهذا يخلق مفارقة لاهوتية تقوم على تناقض بين المطلق المتعالي والعاطفة الإنسانية. وتكتمل شبكة الإدراك بصورة الإيقاع الصوتي المتوحش: "طبولا شعثاء / تقرعُ كالوحوش / تحت قدميكَ الطائرتين". هنا يتحول الإيقاع إلى وحش يطارد الكائن الهارب، وهذا نوع من "الطوطمية الصوتية" التي تحول الصوت إلى قوة بدائية ذات طبيعة غامضة وتهديدية. |
المشـاهدات 59 تاريخ الإضافـة 07/04/2025 رقم المحتوى 61253 |

![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |