النـص : رغم التحديات المتعددة التي مرّ بها العراق خلال السنوات الماضية، تبدو ملامح المرحلة الحالية مختلفة إلى حد كبير، لا سيما من زاوية التهدئة السياسية وانخفاض حدة التوترات بين القوى الفاعلة. هذا الاستقرار النسبي لم يكن محض صدفة، بل جاء نتيجة معادلة سياسية دقيقة تراكمت عبر الحوار، والتوافق، والرغبة المشتركة في الحفاظ على وحدة البلاد.في ظل التحولات الإقليمية والدولية، كانت القوى السياسية العراقية أمام خيارين: إما الاستمرار في دوامة الصراعات والاستقطاب، أو التوجه نحو تهدئة داخلية تضمن الحد الأدنى من الاستقرار السياسي والاقتصادي. وقد اختارت النخبة السياسية العراقية، في معظمها، المسار الثاني، مدفوعة بوعي أن استمرار الانقسام لا يخدم أحدا.ومن أبرز التجارب التي أرست هذا التوازن، كانت تجربة تحالف إدارة الدولة، الذي ضم طيفاً واسعاً من القوى السياسية الفاعلة، ومثّل مظلة توافقية غير مسبوقة منذ سنوات. لم يكن هذا التحالف مجرد اتفاق تقاسم سلطة، بل جاء بوصفه محاولة جادة لتنظيم الخلاف، وتحديد أولويات وطنية مشتركة، والانطلاق نحو مشروع سياسي يضع استقرار العراق فوق كل اعتبار.نجح التحالف في تجاوز الكثير من العقبات التي كانت سابقاً تؤدي إلى انسداد سياسي، وأعاد تعريف العلاقة بين المكونات المختلفة، على أساس المصالح العليا للدولة لا المصالح الفئوية أو الطائفية. ومن خلال هذا الإطار، تم تشكيل حكومة قادرة على العمل وسط بيئة داعمة، وهو ما ساعدها على تنفيذ عدد من البرامج والمبادرات في مجالات الاقتصاد والبنى التحتية والخدمات.التوازنات داخل هذا التحالف لم تكن سهلة، لكنها نجحت في خلق مساحة مشتركة من العمل، بعيدة عن خطاب الكسر وكسر الإرادات، وهي سابقة يمكن البناء عليها في المستقبل، خصوصاً مع اقتراب موعد الانتخابات المقبلة، حيث يتطلع الشارع العراقي إلى مرحلة أكثر استقراراً وفعالية في الأداء.كما أن عودة الحراك السياسي إلى المحافظات، وتكثيف الزيارات المتبادلة بين القيادات العراقية، يعكس مناخاً مختلفاً يسوده شيء من الثقة الوطنية، وشعور عام بأن الجميع معني ببناء الدولة، لا تقويضها.حيث برز السيد عمار الحكيم كأحد أبرز الشخصيات التي أسهمت في تهدئة الأوضاع السياسية بعد انسحاب التيار الصدري من المشهد، فبخطابه المعتدل ومواقفه الداعية إلى تغليب الحوار على الصدام، لعب الحكيم دوراً محورياً في ردم الفجوة بين الأطراف المتنازعة، وساهم في فتح قنوات تواصل خلف الكواليس لتفادي الانسداد السياسي.كما تبنّى مشروع "الاعتدال والوسطية" الذي دعا من خلاله إلى توازن سياسي لا يقصي أحداً، بل يسعى إلى شراكة وطنية تراعي التنوع، وتحترم التمثيل الحقيقي للقوى داخل البرلمان وخارجه. وقد انعكس هذا التوجه في المساهمة بدعم تشكيل حكومة تراعي توازن القوى، وتحظى بقبول داخلي وإقليمي، ما ساعد في استقرار البلاد سياسيًا خلال المرحلة الأخيرة.السيد عمار الحكيم، ومن خلال موقعه في الإطار التنسيقي، لم يكن صوتا تصعيديا، بل مثّل نقطة التقاء بين مختلف المكونات، وساهم في تخفيف التوترات عبر رسائل داخلية وخارجية ركّزت على أولوية مصلحة العراق، واستمرار العملية السياسية بعيدًا عن الفوضى.اليوم، ينظر إلى العراق كدولة بدأت تستعيد حضورها السياسي في محيطها الإقليمي والدولي، عبر خطاب معتدل ومتوازن، يراعي مصالح الداخل دون أن يتورط في صراعات الخارج. وقد تكون هذه من أبرز سمات المرحلة القادمة إذا ما استثمرت بحكمة، خصوصاً في ظل توافق نسبي بين المرجعيات الدينية والقوى السياسية حول أولويات البلاد.ومع اقتراب الانتخابات، تبقى المسؤولية الأهم هي الحفاظ على هذا المناخ الإيجابي، وفتح المجال أمام التنافس الديمقراطي النظيف، الذي يمنح المواطن حرية الاختيار، ويعزز من فرص التجديد السياسي السلمي.فالعراق، بما يملكه من طاقات بشرية وثروات طبيعية وتاريخ سياسي عريق، قادر على تجاوز المحطات الصعبة، إذا ما استمرّت عجلة التوافق، وتمّ احترام التوازنات الدقيقة التي أرستها المرحلة الحالية.
|