
![]() |
البخّارة..صرخة قوية في وجه التلوّث البيئي |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص : عبد الكريم قادري
قليلة هي الأعمال الفنية أو الأدبية العربيّة التي تتبنَى القضايا البيئية، وهذه القلة أو الندرة لا يمكن ملاحظتها في أعمال الدول المتقدمة، فهناك تراكمات حضارية تجعل من مجتمعاتهم حريصة على إنتاج أفلام ومسرحيات وروايات وأعمال منوعة تعالج مشاكل البيئة وتلتحم معها، لأنها أولوية بالنسبة لهم، لها جدوى معرفية وجمالية، وتشكّل التكامل بين متطلبات المواطن والبيئة التي يعيش فيها، لأنه سيورّثها للأجيال القادمة، على عكس العالم العربي، في معظمه، الذي ينظر للمشاكل البيئية على أنها أشياء ثانوية لا تشكّل أي أثر بالنسبة له، لهذا لا يلتحم معها، وفي نفس الوقت يتبنى مشاكل أخرى، يرى بأنها تشكّل أولوية، ومعظمها اجتماعية، ويعود هذا لعدة أسباب، أهمها منطلقات الوعي التي حاصرت عقل المثقف العربي في زوايا اجتماعية واقتصادية ومشاكل يومية، وقيّدت طموحه في أشياء يعتبرها الآخر بديهيات أو حقوقًا مكتسبة، ويرى أيضًا بأنها حاجات تجاوزها الغرب منذ زمن طويل، لهذا تغيّرت منطلقات الفهم والتلقي والسياقات المجتمعية.هذه السردية أسقطها أو أسقط جزءًا منها المؤلف والمخرج المسرحي التونسي صادق الطرابلسي، من خلال مسرحيته "البخّارة" التي تبنى فيها مشكلة بيئية، تمثّلت في التلوث، وما يعانيه الفرد منه، وبالتالي يكون الطرابلسي، هذا المخرج الشاب الممتلئ بالطاقة والإيجابية، قد أعطى لعمله وللمسرح التونسي والعربي بُعدًا خاصًا، من خلال تبنيه مشكلة أساسية يعاني منها إنسان العصر الحديث في كل نقطة من هذا العالم، لترتدي بذلك مسرحية "البخارة" لباسًا مشبعًا بالجماليات والمعارف والمنطلقات التي تؤسس لمسرح تونسي وعربي جديد، لا يهاب من القضايا الكبرى، يركبها بكل خيلاء وشجاعة، ويعطي رأيه فيها، كما يفرض أو يقترح حلولًا عملية لتبنيها أو معالجتها.
عن الروح المنكسرة والهواء الملوث وعن الشمس المختفية
تنطلق المسرحية من فكرة أساسية تخمّرت في ذهن صادق الطرابلسي طويلًا، وقد تعود بدايتها حسب أحد تصريحاته إلى سنوات طفولته، وهذا عندما كان يمر بأحد المصانع، حيث يرى أعمدة الدخان وهي تتصاعد من "البخارة" (مدفأة المصانع)، لكنه لم يكن يعرف بأن ذلك الدخان مسموم وملوث، لكنه عندما كبر عرف تلك الحقيقة الموجعة، لهذا قرر تنفيذ مسرحية عنها، استنادًا لقصة حقيقية حدثت في مدينة قابس الساحلية بتونس: "لا زلتُ في العقد الأول من عمري عندما كنتُ أذهبُ مع والدي إلى البحر. كانت تلك الأضواء الكثيفة الشاهقة تبهرني، وبخارها الصاعد يبدو وكأنه يصل إلى الله. كان هناك جبلٌ أبيضٌ غطى الثلج قمته، كنتُ أتخيل أنها مدينةٌ ألعابٍ كبرى، ولكن بعد ذلك، أدركت أن مدينتي ليست بها ثلوجٌ ولا جبالٌ... إنها مدينةٌ منبسطة، وذلك الضوء الكاذب هو في الحقيقة الظلام، وذلك المكان هو معبد الموت".وقابس هي المدينة الوحيدة التي تلتقي فيها واحة النخيل بالشواطئ، وتلك الميزة جعلتها قبلة للسياح ومحبي الاكتشافات في كل نقطة من العالم، لكن هذا الحلم الجمالي بدأ يتلاشى رويدًا رويدًا، بعد أن قررت السلطات بناء مصنع كيماويات على أحد الشواطئ، من طرف شريك أجنبي، والأمر من ذلك أن هذا المصنع لوّث البحر والأرض والجو، وأصبحت المزارع غير صالحة، فيما اكتسى البحر لونًا أسود، وبالتالي قتلوا المشروع السياحي، وحاصروا المواطن القابسي بجملة من الأمراض، أبرزها علل تنفسية لا تزال ماثلة إلى غاية اليوم.هذه هي الفكرة الأساسية التي جاءت بها مسرحية "البخّارة" التي كتبها وأخرجها صادق الطرابلسي، بمشاركة كتابية مع إلياس رابحي، ومشاركة دراماتورجية مع تماضر الزرلي، كما ساعدت أيضًا في الإخراج، في حين قام بالأداء كل من: رمزي عزيز، مريم بن حسن، علي بن سعيد، بليغ مكي، بلال سلاطنية، وقد تم إنتاجها من طرف مسرح أوبرا- تونس - قطب المسرح والفنون الركحية.ووفقًا لهذه المعطيات، فإن المسرحية تنقل هموم الأرواح المنكسرة التي لوّثتها هموم الحضارة التي تبنيها الصناعة ولا تراعى فيها هموم الإنسان، لذا فلا يهمها حتى وإن كان الهواء ملوثًا، فقط تنتصر لمؤشر الربحية، حتى أن الشمس تكاد تنحجب في بعض المناطق، لا بفعل السحب أو الشتاء، بل بسبب التلوث ودخان المصانع، حتى أنها احتجبت في العديد من المناطق، وبذلك كانت أول صيحة رفعتها مسرحية "البخّارة" في بداية العرض، هي: "ويني الشمس"، بمعنى أين الشمس؟ وهي صيحة قوية ومحورية، يجب تلقفها والعمل عليها قبل أن يتوسع هذا السؤال، ويتبناه كل كائن على الأرض، ومن خلالها يمكن معرفة توجه المسرحية وأسئلتها للراهن المشروعة.
جماليات السينوغرافيا والتشبيك المسرحي/ السينمائي
لم يكن الموضوع وحده من راهن عليه صادق الطرابلسي، بل رهانه تعدى إلى ما هو جمالي ومعرفي، من خلال اعتماده على الطرح الرمزي في عملية نقده لمعضلات الحياة العصرية، وقد استعار أو استعمل في ذلك مسرح القسوة (Theatre of Cruelty)، وهو توجّه مسرحي جاء به الفرنسي السوريالي أنطونين أرتو، كما استعار مسرح الأزمة لزرع أفكاره، وهي معالجة تترك ندبة غائرة لدى المتلقي، ليفهم ويستوعب الفكرة/ المعضلة المطروحة عليه.انعكست السينوغرافيا (من تصميم صادق الطرابلسي) في جميع مفاصل المسرحية، وأعطت لها بعدًا جماليًا غير اعتيادي، خاصة من خلال خدمة البعد الرمزي، وهو الذي ولّد العديد من المعاني القوية والرموز الفارقة التي لم يأت بها النص المكتوب أو المنطق، مثل الجدار الذي يحتوي على أبواب، والتي يمكن تفسيرها على أنها قبور أو أبواب تؤدي إلى عالم موازٍ ميتافيزيقي، وهو غير العالم الذي نعيش فيه، وقد ساهم في زرع هذه الفكرة أو منطلق التأويل الدخان المزروع في كل زوايا العرض، إضافة إلى الإضاءة المتداخلة، وهو الديكور المثالي الذي خلق تداخلًا واضحًا بين ما هو مسرحي وبين ما هو سينمائي، عن طريق التقطيع والانتقال من مشهد إلى آخر، وطريقة تعاطي وتوزيع الممثلين إلى الخشبة، وخلق "كادرات" مثالية، وأكثر من هذا كله هو خلق انسجام واضح، أعطى للعمل المسرحي بعدًا جماليًا ساهم في تشبيك كل ما هو مسرحي مع كل ما هو سينمائي، وهو معطى حداثي أو منطلق تجديد مهم تبناه صادق الطرابلسي، وبالتالي يكون قد ساهم في تغيير الكفة من استفادة السينما بكل ما هو مسرحي، إلى استفادة المسرح بكل ما هو سينمائي، وخاصة جانب الإبهار البصري والتقطيع وبناء المشاهدة وضبط "الكادرات" وشغل الخشبة والحفاظ على منطلقاتها البؤرية من خلال خلق التوازن البصري.أحاط صادق الطرابلسي مسرحية "البخّارة" بجملة من المعارف والجماليات والمعضلات الأخلاقية التي تعاني منها المجتمعات، كما طرح جملة من الأسئلة الوجودية المهمة، حول إنسان الراهن، والبيئة التي نعيش فيها، والاغتراب بكل تجلياته، اغتراب أفراد المجتمع عن بعضهم، وتفرق الأسر من خلال الأمراض، كما شرّح العلاقات التي تربط الأفراد، وكل هذه المعطيات هي تحصيل حاصل لما هو واقع اليوم، بعد أن فسدت البيئة التي يعيش فيها هذا الفرد، حين هيمنت فكرة رأس المال (المصانع) على الهواء الذي نتنفّسه، حيث أفسدته وجعلته ملوثًا، من هنا ولّدت هذه المعطيات ضغوطًا كثيرة على الفرد، وبالتالي أثّرت على علاقاته اليومية وأزّمتها، وجعلتها معطوبة من كل جهة.
جوائز مهمة ومشاركات فارقة
مسرحية "البخّارة" هي صرخة قوية في وجه الحضارة التي تدوس على حقوق الإنسان، بل في أبسط حق له، حيث لوّثت الهواء الذي يتنفسه، وأفسدت الأرض التي يتغذى منها، وحاصرته بكل الأمراض والعلل، وقد جاءت هذه الأسئلة الوجودية المهمة في قالب جمالي ورمزي، ابتعد فيه المخرج عن اللغة المباشرة، وأسلوب الخطابة التي ينفر منها المتلقي ويبعده عن محورية التلقّي الإيجابي، وقد ساهم بقوة النص والإخراج في خلق مقاربة تلاق بين المسرحية والجمهور، خاصة وأن الممثلين اندمجوا بشكل متكامل مع الشخصيات، وعاشوا بكل صدق مع كل حدث وقصة وزاوية، حتى أنهم لم يكتفوا بما هو موجود في الحوارات، بل تعدوه إلى البعد الجسدي الذي خلقوا به لغة تواصل قوية جدًا.مسرحية "البخّارة" عمل تونسي مهم، وربما يؤسس لصفحة جديدة من تاريخ المسرح التونسي الحديث، وفي نفس الوقت يحدث قطيعة مع الآليات القديمة التي تتبع مناهج أو مقاربات تقليدية ومستهلكة، وقد انعكست أهمية هذا العمل من خلال المشاركات والجوائز والاحتفاء الكبير الذي تلقته في العديد من الدول وليس في تونس وحدها، حيث حصلت على التانيت الذهبي في أيام قرطاج المسرحية في دورتها الـ25 (23 إلى 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024)، كما حصدت في نفس هذا المهرجان جوائز أخرى، وهي جائزة أفضل ممثلة وذهبت لـمريم بن حسن، وجائزة أفضل ممثل وذهبت لرمزي عزيزي، وجائزة أحسن نص ذهبت لإلياس الرابحي والصادق الطرابلسي.كما حصدت المسرحية جائزة مهرجان المسرح العربي في دورته الــ15 في مسقط (10 إلى 16 كانون الثاني/ يناير 2025) والذي نظمته الهيئة العربية للمسرح. |
المشـاهدات 14 تاريخ الإضافـة 07/04/2025 رقم المحتوى 61327 |

![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |