النـص :
حين تأمّل ابن خلدون في نشأة الدول وزوالها، لم يكن يُسجّل وقائعَ ماضية، بل كان ينسج قانونًا جوهريًّا لحركة العمران البشري. في صميم هذه الرؤية، تتجسّد العصبيّة لا كعنصر هامشي، بل كقوّة خفيّة تؤسّس الدول وتمنحها روحًا وفاعليّة. لم تكن العصبيّة، عنده، مجرّد رابطة دمٍ أو نسبٍ، بل هي النسيج العميق الذي تنتظم فيه المصالح، وتتماسك عبره البنية الاجتماعية والسياسية، كما تنتظم اليوم الخوارزميات التي تحكم عالم البيانات.في عصرنا، لا نُواجه دولًا بالمعنى التقليدي، بل كيانات رقمية عابرة للحدود، تتسيّد المجال العام دون أن ترفع أعلامًا أو تُصدر عملات. كيانات كبرى مثل غوغل، ميتا، أمازون، وآبل، ليست مؤسسات اقتصادية فحسب، بل أنظمة وجودية جديدة، تشكّل عالمنا وتُعيد صياغة إدراكنا له. هذه الكيانات لا تُبنى على قبائل أو قوميات، بل على تكتلات بياناتية، وعصبية من نوع آخر: ولاء متبادل بين المستخدم والمنصّة، بين الخوارزمية والحياة اليومية.العصبيّة الرقمية التي نعيش تحت سلطانها ليست موروثة، بل مكتسبة بالتكرار والاعتماد. لا تقوم على العاطفة، بل على الحاجة والتكيّف. المستخدم يظنّ نفسه حرًّا، وهو في الحقيقة مرتبط بخيوط غير مرئية من الخوارزميات التي تُرشّح له ما يراه، وتوجّه سلوكه، وتُعيد تشكيل أهوائه. هذه العصبية الجديدة، وإن بدت مريحة وسلسة، تُخفي في باطنها خضوعًا طوعيًّا لما يشبه السلطة الرقمية، سلطة ناعمة لكنها عميقة النفوذ.ابن خلدون أشار إلى أن الدول تبدأ بالتماسك وتنتهي بالترف، حين تفقد العصبية زخمها الأخلاقي وتتحوّل إلى قشرة بلا جوهر. فهل نعيش اليوم لحظة تشظٍ في ولاء المستخدمين؟ هل نشهد بداية انحسار في الثقة تجاه هذه الكيانات الرقمية؟ الفضائح المتكرّرة، التلاعب بالخصوصية، والتضخّم الأخطبوطي للنفوذ الرقمي، كلّها مؤشرات على خلخلة في تماسك العصبية الرقمية، وتآكل في شرعية هذه المنصات بوصفها كيانات محايدة.التحوّل من علاقة ثقة إلى علاقة استغلال يُعيد إلى الأذهان سقوط الدول التي استبدلت العصبية النابعة من الإيمان بمشروع جماعي، بعلاقات نفعية لا تصمد طويلًا. تمامًا كما انهارت الإمبراطوريات التي اعتمدت على الجيوش المرتزقة بدلًا من المواطنين، وكما تفكّكت المجتمعات التي قطعت صلتها بأصولها، يمكن للمنصات الرقمية أن تنهار حين يدرك المستخدمون أنهم ليسوا شركاء بل سلعًا، وأن وجودهم محكوم بمنطق النقرات والتفاعلات لا بكرامتهم الإنسانية.فيسبوك، كمثال حيّ، بدأ كفضاء للتلاقي والتعبير، ثم تحوّل إلى أداة توجيه رأي عام وتسويق منهجي. لم يأتِ اهتزاز صورته من منافس خارجي، بل من داخله: تضارب القيم، انفلات السيطرة، ووضوح نزعته التجارية البحتة. العصبية الرقمية تتآكل حين يُختزل الإنسان إلى خوارزمية، وحين تُقدَّم المنفعة على المبدأ.ما يُسقِط الدول ليس الغزو، بل التآكل من الداخل. تلك البديهة الخلدونية لا تزال صالحة، بل ربما أكثر حضورًا في عصرنا الرقمي. فحين تنهار العلاقة الأخلاقية بين المستخدم والمنصّة، تنهار معها شرعية السلطة الرقمية، ويُفتح المجال أمام موجات جديدة من الانفكاك والبدائل. الثورة الرقمية التي بدأت بوعد التمكين، تكاد تنقلب إلى هيمنة ناعمة تُفرغ الإنسان من خصوصيّته واستقلاله.وهنا تتجلّى عبقرية ابن خلدون في صيغتها الخالدة: الكيانات، مهما بدت فتية ومهيمنة، تموت إذا فسدت عصبيّتها. الدولة، أو المنصّة، لا تسقط حين تُهزم خارجيًّا، بل حين تفقد المعنى الداخلي الذي يُبرّر وجودها. الفرق فقط أن الدول القديمة كانت تُدفن على صفحات التاريخ، أما الدول الرقمية، فتنهار على شكل تحديثات غائبة، وشاشات فارغة، وثقة لم تعد قابلة للاسترداد. العالم يتغيّر حين يفقد الإيمان، لا حين يفقد التكنولوجيا. والخلود لا يُمنح لقوةٍ بلا روح، بل لتلك التي تفهم أن العصبية الحقيقية لا تُبنى بالخوارزميات، بل بالمعنى.
|