الأحد 2025/6/15 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 34.95 مئويـة
نيوز بار
“السرد نباح ضد المقدّس الزائف: قراءة تفكيكية في نباح الكهنة الأفذاذ”
“السرد نباح ضد المقدّس الزائف: قراءة تفكيكية في نباح الكهنة الأفذاذ”
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

الدكتور بهاء اسماعيل/جامعة اسوان

 

في زمنٍ صارت فيه القصة القصيرة تتعثر بين فتات المشهد، واستسهال التقنية، وتحوّل الحكاية إلى مادة ترفيهية، تأتي مجموعة “نباح الكهنة الأفذاذ” لتفجّر الصمت، لا لتعيد الحكي، بل لتعيد مساءلته. فهذه ليست قصصًا عادية، بل صرخات مكتومة ضد سلطة عمرها آلاف السنين، سلطة لم تلبس زيّ الجلاد دائمًا، بل كثيرًا ما جاءت بثياب الطهر، وقد حملت على ظهرها ألواح الطين، ووجوه الآلهة، ونبوءات المطر، لتخفي تحتها الجوع، والاستغلال، وحكاية الإنسان المذبوح في المعبد. منذ أول قصة، يدرك القارئ أن السارد لا يُسلّيه، بل يستدرجه نحو الذكرى الجريحة. لا يسرد الحكاية لكي نطمئن، بل لكي نتورط، كي نتذكر أن الذاكرة لم تكن يومًا مُلكنا، بل كُتبت بأيدي رجال الطقوس، الذين احتكروا اللغة والرمز، وحددوا لنا شكل الخوف، وطبيعة الرجاء، ومتى نغفر، ومتى نُقتل. وإذا كان السرد، كما يقول والتر بنيامين، هو وسيلة الحفاظ على المعنى في وجه الزمن، فإن شوقي كريم في هذه المجموعة يجعل من السرد وسيلة لتفجير المعنى، لا تثبيته. لا معنى يُسلَّم للقارئ هنا، بل يُنتزع منه، يُبعثر أمامه، ثم يُقال له: “اختر رمادك، إن استطعت”. فالقصص لا تحكي قصة الكاهن، بل تُحاكمه، وتعيد رسم المشهد لا كما كُتب على الألواح، بل كما صرخ في العراء ولم يُسمع.

التحوّل الذي يحدثه النص في صورة الكاهن ليس تحوّلاً سطحيًا بل بنيويًا. فالكاهن، الذي مثّل عبر التاريخ مركزًا رمزيًا للمعرفة، يُقدّم هنا بوصفه صانع الوهم الأول. ليس مؤمنًا، بل خبير لغة. ليس رسولًا، بل بيروقراطي الطقس. وهذه هي الخيانة الكبرى التي تشتغل عليها القصص: خيانة اللغة حين تتحوّل إلى أداة طاعة، حين تكفّ عن التساؤل، وتتحول إلى نشيد يُرتل من أجل القتل أو الصمت. ففي قصة “الذي عاينَ النار”، لا نجد الكاهن يحترق، بل نجد الإنسان يحترق في لغة الكاهن. السارد لا يهتم برسم الحدث، بل بكيفية تشويهه من قِبل الرواة. النص، هنا، لا يقصّ ما جرى، بل يتساءل: كيف وصلنا إلى تصديقه؟ وهكذا، يتحوّل الكاهن من بطل روحي إلى محتال سارد، ومن حكيم إلى مخرج سيناريو للحكاية الرسمية.

المجموعة تشتغل ضد فكرة السرد التقليدي، بوصفه بناءً يتوسّل التماسك، والوصول، والحكاية المُتخيلة. فكل قصة هنا، ليست مجرد حدث، بل حفرة في بنية التاريخ المروي، فتبدو القصة كما لو كانت وثيقة مكتومة أُعيد تفجيرها على شكل نثر. لا تسلسل واضح، لا شخوص تتطور، لا أمل بالخلاص، لأن الكاتب لا ينتمي إلى تيار “الترفيه الأدبي”، بل إلى سلالة من الكتّاب الذين يرون في الأدب عملاً ضد السلطة، ضد التمويه، ضد التكرار. اللغة، هنا، ليست طيّعة، بل منحوتة بإزميل الغضب. جمل قصيرة. شذرات. تراكيب مبنية على التهكم أحيانًا، والانهيار أحيانًا أخرى. هناك أسلوب واضح يعتمد تفجير الجملة قبل استقرارها، واللعب على فضاء ما لم يُقل، وليس فقط ما يُقال. هذا الاشتغال يخلق طبقة دلالية جديدة، تجعل القارئ يعيش داخل النص، لا خارجه. تشتغل النصوص على ما يُمكن تسميته بـ ”العار المُكبوت” في الذاكرة العراقية والسومرية. ليست هنا معالجة تاريخية للكهنوت، بل فضح أنثروبولوجي لآليات التواطؤ الجماعي مع الجلاد الروحي. فالمجتمع لا يُقدّم كضحية فقط، بل كمشارك في ترسيخ سلطة الكاهن. فالمرأة التي باركت الذبح، والرجل الذي خاف أن يعترض، والطفل الذي تعلم الصمت، كلهم شركاء في بناء سردية الطاعة. ولهذا، فالنص لا يبرّئ، ولا يلعن فقط، بل يعرّي.في العمق، “نباح الكهنة الأفذاذ” ليس كتابًا في القصة فقط، بل بيانٌ سردي ضد الكهنوت كفكرة. لا يكتفي النص بالاحتجاج، بل يُنتج لغة جديدة تليق بالضد، لغة لا تسأل عن الله، بل عن من سمّى نفسه ناطقًا باسمه. هذه اللغة لا تؤمن بالخلاص، بل بالمواجهة. مواجهة الغريزة، والتاريخ، والسلطة، وحتى ذات القارئ. فالسرد، كما يبدو في هذه المجموعة، ليس أداة لترميم المعنى، بل سلاح لفككه. وفي كل قصة، يدوّي النباح لا كصوت حيواني، بل كاستعادة لحق مَن صمت طويلًا. نباح، لا ليستنفر، بل ليفضح. لا لينهش الآخر، بل لينهش صورة الذات وهي تتورط في الطاعة.المجموعة لا تترك القارئ في حياد. فكما الكاهن كان مركز السرد في الأمس، فإن القارئ هو الكاهن الجديد. القارئ الذي لا يتورط، لا يسأل، لا يصرخ، سيكون هو الكاهن القادم، دون عباءة. من هنا، فإن هذا الكتاب ليس فقط أدبًا، بل اختبارًا. اختبارٌ للضمير، للوعي، للقدرة على التساؤل بعد قرون من التصديق. “نباح الكهنة الأفذاذ” ليس مجموعة قصص. إنه حدث روحي معكوس. فبدل أن ينزّل النص من السماء، يصعد السرد من الطين، ليقول للسماء نفسها: كفى صمتًا… لقد تعبنا من الطاعة.

تبدو القصص في “نباح الكهنة الأفذاذ” كما لو أنها خرجت من قاع الطين المبلّل بالدم، لا لتقدّم سردًا، بل لتبعث فضيحة. إنها ليست حكايات، بل كشوفات صغيرة، كل واحدة منها تنزع خرقة من جسد ميت بقي في معبد مهجور لقرون طويلة. ليست هذه المجموعة حفريات سردية كما اعتاد البعض أن يصف الأدب المتصل بالماضي، بل هي جروح مفتوحة لا تخجل من النزف، ولا تسعى للبراءة، بل تؤكد الجريمة. الكاهن لا يظهر كشخصية هنا، بل كقيمة، كظلّ طويل، يمرّ بين الجمل، يتسلل إلى لغة السارد، ويحوّر الصور كما لو أنه لم يمت أصلًا، بل تغيّر شكله فحسب. القصة هنا لا تسأل عن الذي حدث، بل عن الكيفية التي تمّ بها تطهير الذاكرة من صراخ الضحية، وإغراقها بخرافة الطقوس. القاص لا يروي كما يروي القصاصون، بل يكتب كما لو أنه ينوح، ولكن ليس على موت قديم، بل على كذب متجدد. وهو إذ يستدعي البيئة السومرية، فإنه لا يفعل ذلك من باب التأريخ أو النستالجيا الحضارية، بل من باب الكشف العنيف، لأن هذه الأرض التي خرج منها أول لوح، وأول نص، وأول إله، هي ذاتها التي خرج منها أول كاهن تاجر، وأول سلطة مغشوشة، وأول كذبة باسم الحقيقة. ما يفعله النص السردي هنا هو تحويل التاريخ إلى سؤال، والسؤال إلى تهديد. فكل جملة تُكتب لا لتفسّر، بل لتُربك. وكل صورة تخرج من الهور أو من المعبد، لا لتؤكد المعنى، بل لتشوّش عليه. ما يميّز هذه المجموعة ليس سرديتها، بل روحها السوداوية التي لا تميل إلى الحزن الخالص، بل إلى سخرية جارحة، تأتيك أحيانًا في نصف جملة، أو في التفاتة لغوية تسحبك من مجازٍ متقن إلى خيانة كامنة في الكلمة نفسها. النصوص قصيرة، نعم، لكنها تنطوي على كثافة لا تُستنزف بسهولة، لأنها كتبت من زاوية رؤية لا تبحث عن شكل القصة، بل عن خيانتها. الكاتب يعرف أن الكاهن لم يكن يلبس عباءة، بل يكتب نصًا، ولذلك فإن الرد عليه لا يكون بخطبة، بل بنص نقيض. النصوص لا تثق بالسرد المألوف، ولا تبني منطقًا تطوريًا، بل تأتي كما تأتي الشهادة: متقطعة، مذهولة، مشوّشة، لكنها صادقة في جذرها. هذه الشهادات التي تتوالى واحدة تلو الأخرى، ليست اعترافات، بل إدانة. هي محاضر ضد من كتبوا التاريخ، لا من صنعوه. ولذلك، فالقاص لا يتعامل مع القارئ بوصفه مستمعًا، بل بوصفه متهمًا، أو شريكًا صامتًا، أو شاهد زورٍ محتمل. حين نقرأ هذه القصص، نشعر أن الكاهن لا يزال بيننا، ليس في المعابد، بل في المجالس، وفي مؤسسات التعليم، وفي كتب السيرة الرسمية. الكاهن لم يمت، بل تبدّل اسمه. والنصوص تعرف هذا، وتصرّ على فضحه. هناك غضب دفين في كل سطر، غضب لا يُصرّح به، لكنه يتسرّب من الجملة، من كسر الإيقاع، من انقطاع السرد فجأة كما لو أن الكاتب نفسه اختنق بالكلمة. وهذا ليس ضعفًا، بل اقتدار. لأن النص حين يُخنق، يصبح مرآة لما خُنق في الواقع. والمجموعة كلها تبدو كأنها تُكتب ضد خنقة كبرى، خنقة اسمها: الكهنوت.

ما يلفت أيضًا أن المجموعة لا تُسقط الواقع على الماضي، بل تفعل العكس: تُعيد الماضي ليفضح الحاضر. نحن لا نقرأ عن الكهنة السومريين، بل نقرأ عن كل سلطة استخدمت النصّ لإلغاء الإنسان. ولذلك، فإن “نباح الكهنة الأفذاذ” ليس نباحًا ضد الماضي، بل ضد استمرار الماضي في الحاضر. ضد الكذب حين يتحوّل إلى تقليد، وضد النص حين يتحوّل إلى تابو. القصص تتقدّم واحدة بعد الأخرى مثل أصوات في طقس وثني، ولكنها لا تطلب الغفران، بل العدالة. لا تريد أن تتطهّر، بل أن تحاكم. وهذه هي قوة الكتاب.

المجموعة لا تُكتب عن الكهنة بقدر ما تُكتب ضدّهم، ليست وثيقة، ولا بيانًا، بل صرخة تعرّي النصوص التي كتبوها، وتُعيد للناس صوتهم المسروق. القاص لا يهمّه ما قالوه، بل ما أخفوه. والقصص لا تستدعي الكاهن كرمز أخلاقي، بل كمخبر ميتافيزيقي، كمحرّف ماهر. إنها كتابة لا تهادن، ولا تُحسن النفاق مع السلطة، حتى لو جاءت السلطة على هيئة معبد، أو حكمة، أو نَصّ مقدّس. وهذا ما يجعل كل قصة، مهما بدت قصيرة، تقفز إلى ما وراء السرد، إلى المسكوت عنه. تقف عند منطقة الخوف، وتحرّك إصبعها نحو الجرح. اللغة  ليست مجرّد وسيلة، بل معركة. الجملة مشغولة لا بالرنين، بل بالخلخلة. تُقال لتُقلق، لا لتُعجب. هناك فقر متعمّد في البناء التقليدي، لأن البذخ في الصنعة يُشبه صنعة الكاهن في تجميل الموت. ما يُقال بلا زخرف، يوجع أكثر. وما يُلمح دون اكتمال، يثير أكثر من الخطبة. القاص يعرف تمامًا أن الكاهن يصنع سلطته بالكمال، بالمشهد المرتّب، لذلك يعاكسه. يكتب بتهديم محسوب، كما لو أنه يُعيد ترتيب الذاكرة المحطمة لجيلٍ لا يعرف كيف بدأ خراب هذه البلاد. النصوص لا تسعى لأن تُدهش القارئ بحدث، ولا بأن تبني حبكة، فهي لا تهتم بتسلية أو غموض، بل بتقشير طبقات الزمن الذي أُعيدت كتابته آلاف المرات. لا أحد هنا بريء. حتى السارد، حتى النهر، حتى الريح. الجميع مشكوك فيهم، لأن الجميع عاشوا الكذبة، وسكتوا. وهذا ما يجعل من كل قصة مرآة معكوسة للخراب الداخلي، لا الخارجي. خرابنا الذي قبلنا به لأننا تعبنا من السؤال، لا لأننا وجدنا جوابًا.

ومع ذلك، فالنصوص لا تُغلق أبوابها، بل تترك شقوقًا صغيرة في الجدار. شقوقًا لا يدخل منها النور، بل صوت الآخر، صوت من لم يعد يحتمل. النباح ليس صراخًا عبثيًا، بل تمرينًا على الكلام بعد صمت طويل. الكهنة، كما تشير القصص، لم يقتلوا الناس فحسب، بل علموهم كيف يقتلون أنفسهم ببطء، عبر الصمت، عبر الطاعة، عبر تحويل العقل إلى أداة للقبول. لذلك فإن مقاومة الكاهن، في هذه المجموعة، لا تكون بالسلاح، بل بالكتابة. كتابة لا تؤمن بالترميم، بل بالهدم الضروري، كي نرى ما هو تحت الأساس. القاص لا يكتب من موقع الواثق، بل من موقع المشكّك، الخائف، الرائي، الذي لم يعد يثق حتى بلغته. وبهذا، فإن “نباح الكهنة الأفذاذ” ليست مجموعة قصصية بالمعنى الاصطلاحي، بل مشروع احتجاج. احتجاج ليس فقط على الماضي المدفون، بل على الحاضر الذي يعيد إنتاجه. القصص تساءل كل سلطة تكتب، وتقرأ، وتفسّر، لأنها تعرف أن أكثر الكوارث تبدأ من تأويلٍ صغير، من عتبة نَص، من كلمة نُزعت من سياقها، وصارت دينًا. وهنا يكمن عنف هذه الكتابة: أنها لا تخاف، ولا تُحابي، ولا تصوغ خطابًا إصلاحيًا ناعمًا، بل تبصق الحقيقة كما هي، دون خوف من الردّ أو سوء الفهم. هي كتابة مرّة، نعم، لكنها ضرورية. كتابة لا تعتذر، ولا تشرح. تصرخ فقط، كي لا نصير كهنة، من دون أن نشعر النهاية ليست نهاية. لأن النباح لا يتوقف، والقصص لا تغلق على خاتمة. كل نص يترك أثرًا لا يُمحى، لا لأنه متقن فنيًا فقط، بل لأنه صادق في جُرحه، وفي وعيه بأن السرد – مهما بدا ناعمًا – قد يكون أيضًا وسيلة مقاومة!!

المشـاهدات 111   تاريخ الإضافـة 14/06/2025   رقم المحتوى 63843
أضف تقييـم