
![]() |
شريف خزندار: في البحث عن الخيال في الفن والمسرح |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص :
جمال شحيّد
"مسافر زاده الخيال: حوار مع شريف خزندار"، عنوان كتاب حنان قصاب حسن الأخير، الصادر عن دار أطلس، 2025 (271 ص). وهو كناية عن سلسلة حوارات استمرّت من 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 وحتى 6 حزيران/ يونيو 2022، أي أثناء جائحة كورونا. ويجمع الكتاب عددًا كبيرًا من الصور الفوتوغرافية الهامّة التي تزيّن صفحاته وتثري مضمونه. وبما أنّ حنان تنحدر من عائلة تعشق الموسيقى، فقد اقتبست عنوان كتابها من أغنية معروفة لمحمد عبد الوهاب من تأليف الشاعر محمود حسن إسماعيل، لتقول إن شريف خزندار، كابن بطوطة، مسافر جاب أقطار الدنيا بحثًا عن الخيال في الفن والمسرح.يبدأ النص بنشأة شريف ودراسته في معهد اللاييك في دمشق، ومن ثم في الجامعتين الأميركية واليسوعية في بيروت، حيث قدّم لنادي الدراما في الأميركية مسرحيّة "كاليغولا" لألبير كامو. ويذكر أنه جمع في بيروت بين الثقافتين الإنكليزية (الجامعة الأميركية) والفرنسية (مدرسة الآداب التابعة للجامعة اليسوعية). كما يشير إلى أن "المركز الجامعي للدراسات المسرحية" قد أنشأته الجامعة اليسوعية بعد النجاح الفريد لمسرحية "في انتظار غودو"، التي مثّل فيها شريف مع جلال خوري وميشيل غريب وروجيه عساف وابن المسرحي المعروف جورج شحادة. وبعد أن أسّس الشاعر صلاح ستيتية الملحق الأدبي لجريدة L’Orient littéraire، صار شريف يكتب مقالًا أسبوعيًّا عن الفنانين التشكيليين السوريين، من أمثال نصير شورى، ومحمود حماد، وميشيل كرشة، وإلياس زيات، ولؤي كيالي، وفاتح المدرّس، ونعيم إسماعيل... ويذكر شريف كيف أنه أصدر مع فاتح ديوان "القمر الشرقي على شاطئ الغرب" السوريالي، بطبعة ثنائية اللغة (العربية والفرنسية)، وهو الديوان الذي أعادت احتفالية دمشق كعاصمة للثقافة العربية إصداره. ويعقّب شريف قائلًا إن تلك الأجواء الدادائية والسوريالية كانت آنذاك ردّة فعل على "لا جدوى العقلانية التي أوصلت أوروبا إلى حربين عالميتين".لكنّ ذلك العصر الجميل في سورية ولبنان انتهى بسفر شريف إلى باريس، وتدرّبه في المسرح الوطني الشعبي TNP، حيث التقى بأيقونة المسرح الفرنسي: جان فيلار. وسجّل شريف في جامعة مسرح الأمم Le Théâtre des Nations، التي كانت تعجّ بالمخرجين والكتّاب والممثّلين ومصمّمي الديكور. وكتب كمشروع تخرّج مسرحية عنوانها Abel et Eve [هابيل وحوّاء]، أخرجتها صبيّة اسمها فرانسواز غروند، أصبحت فيما بعد زوجته. تقول فرانسواز: "مضت علينا أنا وشريف ستون سنة، وهي حياة طويلة. وقعتُ في حبه وعشنا معًا في غرفته الصغيرة في باريس، التي كنّا نضطر أن نمرّ عبر السطوح للوصول إليها" (ص 41). ثم سكنا في شارع الموفتار المليء بالـ"كلوشار"، ويقال إن رامبو وفيرلين سكنا فيه.وفي الستينيات، عاد شريف إلى دمشق لأن الوزير سامي الجندي ــ صديق أبيه ــ عيّنه خبيرًا في المسارح السورية، فصار لديه مكتب في الوزارة مع امرأة محجّبة أصبحت ممثّلة في المسرح القومي. ويتوقّف النص مطوّلًا عند تيارات المسرح في سورية آنذاك: التيار الشعبي المتمثّل بحكمت محسن، وسعد الدين بقدونس، وتيسير السعدي، وخالد تاجا...، والتيار النخبوي المتمثّل برفيق الصبّان، وهشام متولي، وغيرهما. ولا يخفي شريف إعجابه بعمل رفيق الصبّان الذي قدّم مجموعة من المسرحيات العالمية. وفي عام 1963، قدّم شريف للمسرح القومي مسرحية "الاستثناء والقاعدة" لبرتولد بريخت، فلاقى العرض نجاحًا كبيرًا، إلا أنّ الأجهزة الأمنية البعثية أوقفته. وتردّى المسرح آنذاك بتدخّل الجيش والمخابرات في تفاصيل الحياة الثقافية. فقرّر شريف وفرانسواز (التي كانت تدرّس الفرنسية في معهد اللاييك) مغادرة البلاد نهائيًّا. فتوجّها إلى الجزائر العاصمة، ثم إلى تونس، حيث نظّم شريف في مسرح الحمّامات فرعًا للدراسات العليا المسرحية يشبه جامعة مسرح الأمم في باريس. ثم انتقل إلى الدار البيضاء في المغرب، بدعوة من الطيّب الصديقي. ويقول شريف عنه: "الطيّب الصديقي شخص عبقري ومجنون نوعًا ما. كان ممثّلًا كبيرًا، ولديه حضور حقيقي على الخشبة لقدرته على إثارة انتباه الجمهور. كان في الوقت نفسه مثقّفًا للغاية، وذكيًّا، ولمّاحًا، ويحفظ كل شيء. وكانت لديه ذاكرة قوية تجعله يتذكّر كل شيء بالتفصيل، وكان يتمتّع بقدرة كبيرة على المزاح والضحك" (ص 75). ويذكر أن الطيّب كان يقدّم عروضه في الساحات العامّة، وأن شخصيته تشبه شخصية "الأزعر" (voyou) الذي كان يلعب دور مهرّج الملك (le bouffon du roi)، كي يموّل مسرحه وفرقتَه.لكن هذا التجوال في المغرب العربي لم يدم طويلًا، فعاد شريف وزوجته إلى باريس. وقدّم على خشبة البرلينز إنسامبل مسرحية "الاستثناء والقاعدة" بالعربية. واندلعت الثورة الطلابية في باريس عام 1968، من دون أن يشارك شريف فيها. ثم عمل في تقييم النصوص الدرامية في التلفزيون الفرنسي، ونشط في كتابة المقالات المسرحية التي نَشرها في مجلة Jeune Afrique. ثم كلّفته منظمة اليونسكو بتأليف كتاب عن المسرح العربي، سطت عليه الأستاذة الجامعية ندى توميش.ويتكلّم شريف من ثمّ عن تجربة "الهيئة الدولية للمسرح" ITI التابعة لليونسكو، والتي عقدت إحدى دوراتها في مبنى المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق. ويُعيَّن شريف مديرًا لبيت الثقافة في مدينة رين الفرنسية، لكن مثقّفي المدينة استقبلوه بجفاء، وأطلقوا عليه لقب Sarasin، أي "العربي"، وهي الكلمة التحقيرية التي انتشرت أثناء الحروب الصليبية للدلالة على العرب. غير أن شريف قام ببعض المبادرات الفنية (دعوة جولييت غريكو، إطلاق مقهى المسرح، تنظيم حفلات للحكواتية والقيّالين...)، وخلال شهور، استطاع أن يقلب الرأي العام المعادي إلى مؤيّد له. ومن بين الإنجازات التي قدّمها بيت الثقافة في رين، لا بد من ذكر أوبرا Euridice لجوليو كاتشيني (1551–1618)، وإقامة مهرجان الفنون التقليدية. وأنهى شريف إقامته في رين بتقديم عرض من تأليفه بعنوان: "مكنات النقود: أبواب السماء".وبعد أن أمضى ستّ سنوات في بيت الثقافة في رين، عُيّن شريف مديرًا لبيت ثقافات العالم في باريس (شارع راسباي، الأليانس فرانسيز)، وتعاون مع جان دوفينيو، المختص في سوسيولوجيا المسرح وربطه ببنيات المجتمعات. وانضمّت إليهما أرواد إسبر (ابنة أدونيس)، وفرانسواز، زوجته، التي كانت تجوب العالم لدعوة الفرق المسرحية والفنية، وتؤمّن البنية التحتية لها. تقول عن الثقافة السورية: "كنت أرى الناس في الشارع يتصرّفون كما لو كانوا يقدّمون عرضًا مسرحيًا... لم أتوقّف عن البحث عن ذلك الجانب المسرحي في شكل التعبير لدى السوريين" (ص 143).ومن بين العروض التي قدّمها بيت ثقافات العالم، لا بد من ذكر العمل المسرحي الجميل الذي أعدّه الطيّب الصديقي عن كتاب "الإمتاع والمؤانسة" لأبي حيّان التوحيدي. وقد أسّس شريف آنذاك مجلة Internationale de l’Imaginaire (أممية المتخيَّل)، وهي سلسلة من الإصدارات التي تعالج ثيمة معيّنة، وشارك فيها المستشرق جاك بيرك، والفيلسوف إدغار موران. وقد نشرت دار "آكت سود" أربعين إصدارًا منها، ثم توقّفت بسبب ضيق الوقت. وفي بيت ثقافات العالم، اهتمّ شريف خصوصًا بمفاهيم العالم الثالث عن المسرح، وبالأشكال المحيطة به من رقص وغناء وشعائر، أي تلك العروض التي لا تندرج عادة ضمن الأطر المسرحية الغربية البحتة، أو ما يُعرف بالتراث اللامادي.عمل شريف مع اليونسكو وأصبح فيها رئيس لجنة الثقافة ضمن اللجنة الوطنية الفرنسية في اليونسكو. وبعد ذلك بسنتين، صار ممثّلًا لفرنسا لدى منظمة اليونسكو. واقترح استبدال كلمة "فولكلور" الشائعة بتسمية "التراث اللامادي". ويتوقّف كتاب حنان عند اهتمام شريف بظاهرة أبي صبحي التيناوي، ويروي شريف أن لؤي كيالي أخذه ذات مرة إلى سوق مدحت باشا في دمشق، وقال له: "وجدنا بائع صحون وفناجين وقدور مطبخية اسمه محمد حرب، لكنهم ينادونه بلقبه: أبو صبحي التيناوي. دخلنا المحل، فرأيت رجلًا يرسم على الزجاج، وحوله مجموعة رسومات على الورق تروي قصص عنترة وعبلة. وجدت تلك الرسومات جميلة جدًا، وقد كتبنا مقالًا مشتركًا، أنا ولؤي، قارنا فيه فنّ أبي صبحي التيناوي البدائي الغريزي بأعمال بيكاسو وشاغال" (ص 214). ولاقى المقال إعجاب عدد كبير من الذوّاقة، فتهافتوا على شراء أعمال التيناوي.ويذكر شريف أيضًا أن كراكوز وعيواظ كانا يسحرانه، وأنه كتب عددًا من المقالات عن مسرح الظل وصندوق الفرجة، وقد أطلعه شفيق إمام على تفاصيله في قصر العظم بدمشق.وعام 1985، يُعِدّ شريف لمركز الحمّامات في تونس مسرحية "مأساة الحلّاج"؛ وبعد أيام من عرضها، منعتها السلطات التونسية، فقدمها شريف على خشبة مسرح "الأليانس" لمدة شهر. وفي عام 2000، كتب هو وفرانسواز مسرحية "جوليا دومنا"، وعُرضت في اللاذقية وفي قصر العظم بدمشق، بعد غياب طويل عن سورية بسبب توجّسه من بطش المخابرات به. ثم عرض مسرحية "شجرة الدرّ" للكاتب التونسي الفرنكوفوني عز الدين مدني، وقدّمها لاحقًا عام 2005 في أوبرا دمشق وفي باريس. وبمناسبة هذا العرض، اكتشف موهبة موسيقية سورية نفيسة تمثلت بعازفة العود والمغنية وعد بوحسون، التي تألّقت لاحقًا في أوبرا باريس، ومعهد العالم العربي، وفي قاعة السفراء في قصر الحمراء في غرناطة.وبسبب هذه النجاحات، أصبح شريف مديرًا لمسرح "الرون بوان" في الشانزليزيه بباريس، خلفًا لجان بيير بارو، الذي كان قد تجاوز الثمانين من عمره. وفي عهد الوزير جاك لانغ، أدار شريف هذا المسرح الشهير من عام 1991 وحتى 1995، رغم المؤامرات التي حاكها ضدّه عدد من الإداريين والمسرحيين.وخلال فترة إدارته لمسرح "الرون بوان"، وسّع شريف آفاق التعريف بثقافات العالم، وأنشأ برنامجًا هامًّا بعنوان Courants du monde (تيارات العالم) ليكون أداة للحوار بين الثقافات، مما دفعه إلى تأسيس مركز للتوثيق الثقافي والمسرحي العالمي في "فيتري سور سين" (Vitry-sur-Seine)، إحدى الضواحي القريبة من باريس.وفي التسجيل الأخير لهذه اللقاءات، تعود حنان قصاب حسن إلى سؤال شريف عن طفولته؛ وفيه تربط بين بداية هذا الكتاب وخاتمته، كأن العودة إلى الطفولة الأولى هي مربط الفرس، كما يقول فرويد.يذكر شريف أن جدّه كان قاضيًا في أنطاكية، وأن أباه التقى أمّه الفرنسية عام 1934، وأنه عاش مع أهله في حلب، وسكنوا في بيت يقع بالقرب من فندق بارون. ثم انتقلت العائلة إلى دمشق عام 1944: الأب موظف في وزارة الإعلام، والأم مدرّسة لغة فرنسية. ويذكر أن أباه رفع علم الاستقلال في أول عيد جلاء للفرنسيين عن سورية، وأنه سجّله في معهد "اللاييك" حتى حصوله على البكالوريا. ويضيف أنه كان مولعًا بسماع نداءات الباعة المتجولين، ومعجبًا بصندوق الدنيا. ثم انتقل إلى الجامعة الأميركية، وبعدها إلى الجامعة اليسوعية في بيروت، ليستقرّ أخيرًا في باريس.ويعرب شريف عن انطباعاته حول التحوّلات التي طرأت على سورية بعد عام 2011، قائلًا:"ما حصل بعد 2011 آلمني جدًا. صحيح أنني كنت بعيدًا، ولم أستطع أن أعيش عن كثب الرعب الذي كان يحصل. لكن بصراحة، كنت أشعر بأنني أريد أن أحفظ روابطي مع سورية التي عرفتها في أجمل أوقاتها. آلمني جدًا ما حصل، آلمني أن أدرك أن هذا البلد، الذي كان جميلًا وهادئًا عندما عدت لرؤيته، راح ينهار بتلك الطريقة. كانت لديّ هواجس تجاه الدمار والقتل والعنف والموت. كل ذلك بقي ماثلًا في ذهني، وهذا رهيب" (ص 255).وتختتم حنان بقولها لشريف: "لقد قطعتَ شوطًا كبيرًا يا شريف في السير على دروب ثقافات العالم، وقمتَ بأشياء كثيرة تركت علامات في المشهد الثقافي العربي والعالمي". وتُذكّر بعدد كبير من الفعاليات الأخرى التي أحدثها شريف: احتفالية "فينيسيا بوابة الشرق"، احتفالية "آيسلندا: من جليد ومن نار"... وتُذكّر أيضًا بالمناصب الثقافية الهامة التي شغلها خارج فرنسا: عضو مجلس أمناء احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية عام 2008، المدير الفني لمهرجان "موازين" في الرباط، ولمهرجان فاس للموسيقى، وعضو في الأكاديمية الأوروبية للفنون والآداب... وتذكر حنان عثورها في الإنترنت على جائزة باسم شريف خزندار، يمنحها "بيت ثقافات العالم" للباحثين في مجال المسرح، وعروض الدمى، والأداء الشعائري، والموسيقي، والراقص.وبعد أن تجاوز شريف عامه الثمانين، قال: "أعتقد أني قمت بكل ما كنت أحلم بالقيام به". إنها حياة مكرّسة للمسرح، كتابةً وإخراجًا، في شتى البلدان. صحيح أن شريف خزندار يحمل الجنسية الفرنسية، لكنه لم ينسَ أصوله العربية والسورية تحديدًا، ومنها انفتح على ثقافات العالم. ما أغزرها!لقد اختارت حنان قصاب حسن أن تكتب جانبًا من حياتها الثقافية التي تتقاطع مع مسيرة شريف خزندار، وأرادت أن يكون هذا الكتاب سلسًا في قراءته، غنيًا في موضوعاته، بسيطًا في أسلوبه. أرادته حواريًا يعرّف القارئ بقامة شريف خزندار، وبالدور الذي لعبه في خدمة الثقافتين العربية والفرنسية، وفي إبراز أهمية المسرح في الحياة، منطلقة من دورها ودور شريف فيه. |
المشـاهدات 20 تاريخ الإضافـة 15/07/2025 رقم المحتوى 64776 |