الإثنين 2025/9/1 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 30.94 مئويـة
نيوز بار
قصة قصيرة مقهى الناصرية الأخير
قصة قصيرة مقهى الناصرية الأخير
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

 مؤيد الشاوي

 

...........................

 

عدتُ إلى الناصرية بعد أعوامٍ طويلة، لا لألتقي أحدًا، بل لألتمس أثري في مدينةٍ تركتُها ذات خيبة. كنتُ أبحث عن شيءٍ لا أعرف اسمه… ربما عني، أو عمّا بقي من صدى خطاي في الشوارع  القديمة، حين ودّعتُ كلّ شيءٍ دون أن أملك مفردة واحدة للوداع.

في مساءٍ خريفيّ، والغيوم تحجب وجه الشمس بخجلٍ جنوبيّ، والمطر ينهمر بخفّة دمعةٍ على خدّ أرملة.

 دخلتُ مقهى شعبيًّا عند طرف السوق الكبير. كان المقهى من طابوقٍ قديم، يتكئ على جدار الذكرى، وتتشقّق طاولاته كأنها أوراق خريفٍ مهجور، وتئنّ كراسيه من ثقل الحكايات.

جلستُ قرب النافذة المطلة على نهر الفرات، حيث الزوارق تمخر ببطء، كما لو كانت تستحضر زمنًا لا يريد أن يرحل.العصافير تهتف لمطرٍ خفيف، لايروي الأرض، لكنه يوقظ الوجدان.

طلبتُ استكانة شاي من "أبو نجم"، رجلٌ بدا لي كأنه سطرٌ من كتابٍ قديم. جلستُ بهدوء، أعدّل شعري المبعثر كأنني أرتّب فوضى داخلي، وأنظر إلى السقف الخشبي كمن يخشى سقوط الذكريات لا الخشب.

كنتُ أفكر:

لو جاءت الآن، هل تعرفني؟هل تجلس أمامي كما كانت تفعل، تسألني إن أكلت؟ تشدّ على كفّي؟

هل يعيد الزمن خطاه، ولو مرةً واحدة؟

وفجأة...جاء الصوت…

حنونًا، دافئًا، كما اعتدته حين كانت توقظني للصلاة:

"بعدك تشرب الشاي مرّ، يمّه؟"

رفعتُ رأسي، فإذا بها...

هي.

أمي.

واقفة كما كانت دائمًا، بعباءتها السوداء، ووشاحٍ مبلّل بطين الطريق، بعينيها العسليتين، اللتين ظلّتا وحدهما تذكّرانني أنني ما زلت ابنًا.

جلست قبالتي . لم تسألني عن الصحة أو العمل، وكأنها تعرف كل شيء.

اكتفت بنظرة واحدة، ثم قالت:

"هواي تعبك البُعد… بس ضحكتك بعده بيها شي من صغرك."

ظلّ صمتُنا يشبه الصلاة.

تحدثنا عن الطفولة، عن رغيف الخبز الساخن، عن الأرجوحة ، عن ضحكتها حين تسهو وهي تطبخ، عن صوتها وهي تغنّي لي حين كنت مريضًا.

ضحكتُ.

ضحكتُ كأنني أستنشق الماضي من صدرها.

قالت وهي ترتشف من استكانتها: "الدنيا تمشي، يا يمّه... بس حضن الأم ما يتغير."

قلتُ وأنا أراقب المطر: "وأنا كلّ ما بعدك كان بردًا، وكلّ طريقٍ بدونك كان وحشة."

همّت أن تقوم.

فقلتُ: "تبقين؟"

أجابت وهي ترتب عباءتها بصمتٍ يشبه النهاية:

"مو كل حضن نرجعله يا روحي... بعض الوجوه تزورنا مرّة، وتكفينا للعمر كلّه."

وغادرت.

وبقي المقهى بعد رحيلها كأنه بيتٌ بلا صوت أم، والمكان رطبٌ كأن المطر استعان بالحنين ليبكي بدلاً عني.

في الخارج، كانت الناصرية تنصت لصوت الغياب، كما تنصت أمٌّ لطفلٍ لم يعد.

أما أنا، فجلستُ وحدي، أحتسي شايًا مرًّا...

وأنتظر شيئًا لا يعود.

ثم أفقتُ.

لم تكن هناك.

الكرسي المقابل كان فارغًا، والاستكانة أمامي نصفها شاي، ونصفها عمر.

كلّ ما حدث… رؤيا.

رؤيا زارني فيها الحنان الذي لا يموت.

عدّلت جلستي، ومسحت بخفة قطراتٍ تجمعت على الزجاج.

ثم نظرتُ إلى النافذة من جديد…

علّها تأتي هذه المرة...

ولو على هيئة مطر.

المشـاهدات 313   تاريخ الإضافـة 22/08/2025   رقم المحتوى 65897
أضف تقييـم