الجمعة 2025/10/3 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 26.22 مئويـة
نيوز بار
نحن جميعاً موظفون
نحن جميعاً موظفون
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب رياض الفرطوسي
النـص :

في زمنٍ تتشابك فيه السلطة والمعرفة، أصبح الإنسان محاصراً لا بما يملكه من إيمان وأفكار، بل بما يُسمح له أن يعبّر عنه. إننا جميعاً موظفون، بالمعنى الواسع للكلمة: مقيدون بضغوط اجتماعية وسياسية وثقافية تمنعنا من الإفصاح عمّا نعتقد، وتجبرنا على ارتداء الأقنعة كي نتكيّف مع واقع يضيق بالخارجين عن المألوف. الموظف هنا ليس ذاك الذي يعمل في مؤسسة رسمية، بل هو صورة لإنسان مكبّل، لا يستطيع أن يعيش حريته كاملة.

 

لقد أصابتنا "عدوى الغرب" بطريقة معكوسة؛ فبدلاً من أن نستلهم من حيوية النقد الفلسفي والأدبي التي صنعت جيل سارتر وكامو، حوّلنا مثقفينا إلى مجرد موظفين لدى السلطة أو المؤسسة أو الحزب. وحين يتحول المثقف إلى موظف، يفقد دوره الأخلاقي بوصفه ضمير المجتمع، وينغلق في دائرة اللغة الكهنوتية أو الشعارات المستهلكة.

 

لكن هل يكفي مقال أو بحث أو دراسة كي يغير مجتمعاً بأكمله؟ ربما لا، غير أن كل تغيير يبدأ بفكرة. والأفكار، كما قال فيكتور هوغو، "لها أجنحة أقوى من أجنحة الطيور". التغيير الحقيقي لا يقوم على تراكم النصوص فقط، بل على تأسيس رؤى جديدة قادرة على تفكيك البُنى الجامدة وإنتاج معرفة حيّة، معرفة تتحرر من أسر الماورائيات ومن الخطاب الميتافيزيقي الذي يكرس السكون.

 

إن أول الطريق هو إنتاج معرفة جديدة: معرفة تضع الإنسان في مركزها، لا بوصفه تابعاً لسلطة غيبية أو عشائرية، بل باعتباره كائناً حرّاً مسؤولاً عن مصيره. ميشيل فوكو نبّه إلى أن كل معرفة مرتبطة بالسلطة، وأن كسر هيمنة السلطة لا يكون إلا عبر إعادة تشكيل الحقول المعرفية.

 

والخطوة الثانية تتمثل في إعادة الاعتبار للمرأة. مجتمع لا يرى نصفه، مجتمع مشلول بالفعل. لا يمكن أن يتحقق أي مشروع للنهضة فيما المرأة محجوبة عن الفعل التاريخي، مسلوبة الكيان، محصورة في أدوار أُعدت مسبقاً لها. سيمون دي بوفوار كتبت: "لا تولد المرأة امرأة، بل تصبح كذلك"، وهو قول يكشف أن حضور المرأة في المجتمع ليس قدراً بيولوجياً، بل صناعة اجتماعية وثقافية قابلة لإعادة التأسيس.

 

أما الركيزة الثالثة فهي بناء مجتمع ديمقراطي قائم على القانون، قانون يعلو على جميع الانتماءات الضيقة من قبيلة أو طائفة أو مذهب. الديمقراطية هنا ليست صناديق اقتراع شكلية، بل هي ثقافة يومية، تمكّن الفرد من أن يكون مواطناً لا تابعاً، حراً لا موظفاً. فيلسوف مثل حنّة أرندت رأت أن الحرية السياسية لا تُختزل في الحرية الفردية الخاصة، بل في القدرة على المشاركة في الفضاء العام، أي في الفعل المشترك الذي يصوغ المصير الجماعي.

 

إننا اليوم أحوج ما نكون إلى ثورة فكرية وأخلاقية، لا تستنسخ الماضي ولا تعيد إنتاج العبودية، بل تفتح الأفق أمام أجيال جديدة لتقول ما تؤمن به بلا خوف، وتعيش ما تعتقده بلا قيد.

 

فما لم نتحرر من كوننا "موظفين" داخل قوالب السلطة الاجتماعية والسياسية ، لن نكون قادرين على أن نصبح بشراً أحراراً.

المشـاهدات 42   تاريخ الإضافـة 24/09/2025   رقم المحتوى 66848
أضف تقييـم