
![]() |
رواية" الوطأة "للكاتب قاسم حسن علي: بين الوثيقة والتخييل لعبة السرد في البحث عن الحقيقة |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص : مروان ياسين الدليمي
تبدو بعض الروايات مثل لوحةٍ مُعلّقة في صالة مظلمة؛ لا تُقرأ وحدها، بل تُقرأ في مرآة الزمان. رواية " الوطأة " للكاتب قاسم حسن علي الصادرة عن دار الميثاق 2025 ، تنتمي إلى هذا النمط من النصوص التي لا تكتفي بأن تسرد، بل تُقحم قارئها في تجربة مواجهة، كأنها تدعوه لالتقاط الشظايا وإعادة تركيبها كي يكتشف صورة أبعد من الحكاية ذاتها. فالمتن السردي هنا ليس انسياباً زمنياً، بل محاولة لالتقاط التصدعات التي تحفر في جسد الواقع العراقي، وتحويلها إلى صور قابلة للتأمل. ومن اللحظة الأولى، يدرك القارئ أنه أمام نص يقدم له. صورا عن الحياة اليومية – المدرسة، البيت، تفاصيل الأصدقاء – تنسحب فجأة لتتجاور مع صور سياسية متفجرة: عقود نفط، انفجارات، جلسات تحقيق أمني. لا حدود فاصلة بين الخاص والعام، بين الهامشي والمركزي؛ كل تفصيلة صغيرة يمكن أن تنفتح لتصير مرآة لزمن أكبر، وكل حادثة كبرى تتسرب إلى تفاصيل الطفولة والبيت. بهذا التواشج، يؤكد الكاتب أن التجربة الفردية لا تنفصل عن جرح الجماعة، وأن ذاكرة طفل أو قلق شاب ليست سوى امتداد لذاكرة بلد بأكمله. أكثر من رواية الرواية لا تقود القارئ في مسارٍ مريح، بل تعمد إلى تقويض توقّعه: لا أحداث مرتبة ولا خط درامي تقليدي، بل صور متراكبة، أشبه بقطع فسيفساء متناثرة. هنا، يُجبر القارئ على أن يكون شريكاً في العمل، عليه أن يجمع الأجزاء، أن يتأمل في الفراغات بقدر ما يتأمل في الامتلاءات. وكأن النص يقول: إن فهم الواقع العراقي لا يتحقق عبر السرد المستقيم، بل عبر تلمّس الشقوق، قراءة الصمت، الإصغاء إلى الأصوات المتقاطعة. وهكذا تتحول " الوطأة" إلى أكثر من رواية: إنها مختبر للذاكرة، مرآة للتاريخ، وتجربة سردية تدعو قارئها لا إلى الاستهلاك السلبي، بل إلى التفكير النقدي في كيفية صياغة الحكايات، وفي أي معنى يمكن أن يُستخلص من واقع ينهار باستمرار تحت ثقل أحداثه. أنمار: مرآة لجيل كامل في قلب الرواية يقف أنمار — ليس بوصفه بطلاً تقليدياً محاطاً بالبطولات، بل بوصفه مرآة مفتوحة على زمنٍ مُصاب بالعطب، زمن تتداخل فيه الحروب بالذاكرة، واليومي بالسياسي. أنمار لا يُقدَّم كصوتٍ وحيد يقود السرد، بل ككائن موزع بين الآخرين، يتقاطع مع وجوه مثل رأفت، أيفا، الطون،… ليشكل معهم شبكة من الحكايات الصغيرة التي لا تكتمل إلا بقدر ما تنكشف هشاشتها. في حضوره نلمس تقصد الكاتب كسر مركزية البطل الواحد، كأن الرواية تُصرّ على أن الفرد في واقع مضطرب لا يمكن أن يكون سوى حالة عابرة، وجزء من فسيفساء اجتماعية مهددة بالانكسار. أنمار هو شخصية تتخلق في منطقة وسطى، بين أن يكون شاهداً أو متهماً، بين أن يظل طفلاً في ذكريات المدرسة أو أن يُساق إلى دهاليز التحقيق الأمني. هذا الازدواج يمنحه طابعاً استعاريًا: فهو ليس شخصاً بعينه بقدر ما هو انعكاس لجيل كامل، جيل يواجه سؤال الهوية في عالم يتآكل فيه معنى الانتماء. وحين يبدو أنمار مُشتّتاً أو متردداً، فذلك ليس ضعفاً سردياً، بل مقصود جمالي، إذ لا يمكن اختزال تجربة بلد مثخن بالتشظي في صوتٍ واحد أو في سيرة فردية مغلقة. الكاتب، عبر هذه البنية، يوجّه قارئه إلى أن يرى أنمار كصورة من صور العراق ذاته: بلدٌ لا يُقرأ كخط مستقيم بل كنسيج من الأصوات، بلدٌ تتعدد فيه الذاكرات وتتصادم، فلا تُمنح أي ذاكرة سلطة مطلقة على الأخرى. أنمار إذن ليس البطل بل "الفراغ الذي يتسرب عبره التاريخ"، الكيان الذي يذكرنا بأن البطولة في هذا السياق ليست في السيطرة على الحدث، بل في القدرة على الصمود داخل زحمة الأحداث. التشظي كاستراتيجية جمالية اعتمد النص في السرد على تقنية التشظي، لا بوصفها خياراً شكلياً فحسب، بل كفلسفة كامنة في صميم التجربة الروائية. فالأحداث لا تُروى في خط مستقيم، بل تُوزع في لوحات متلاحقة: تقطيعات زمنية، قفزات بين المذكرات المدرسية ولحظات التحقيق، انتقالات من محادثات عائلية حميمية إلى تقارير عن صفقات نفط. هذا التشظي ليس مجرد فوضى، بل هو استراتيجية تقنية، تكشف للقارئ أن الواقع ذاته لا يُعاش في تسلسل منطقي، بل في ومضات متفرقة، في صور متجاورة لا يجمعها سوى الذاكرة وهي تحاول لملمة ما تناثر. ومن بين أكثر العناصر حضوراً في هذه التقنية هو الصوت الأمني، ذلك التكرار المزعج لأسئلة الضباط، مقاطع التحقيق، اللغة التي تحاصر المتهم وتستبيح ذاكرته. لكن الكاتب لا يكتفي بتسجيل هذه اللغة كواقع، بل يوظفها كأداة نقدية تكشف آلية إنتاج "الحقيقة". فالتحقيقات ليست بحثاً عن الحقيقة بل صناعة لها، صياغة حكم يُقدَّم في هيئة استجواب. التوتر في الإجابات، الغموض المتعمد، المساحات المحجوبة من الذاكرة، كلها تدل على أن الرواية معنية بكشف هشاشة المفهوم ذاته: أن الحقيقة، في ظل أجهزة المراقبة والقمع، ليست سوى نص آخر يُفرض على الوعي. الشخصيات الثانوية واقتصاد القوة الشخصيات الثانوية — من المعلمٍ إلى زملاء المدرسة، ومن عاملين في مؤسسات النفط إلى وجوه عابرة في جلسات التحقيق — لا تظهر باعتبارها تفاصيل هامشية، بل كدلائل عميقة على القوة التي تحكم المجتمع. حضورها المتقطع لا يقل أهمية عن حضور أنمار، لأنها تعمل كعُقد في شبكة سردية تكشف عن آليات النفوذ والخضوع داخل النسيج الاجتماعي. المدرسة تبدو، في البداية، مجرد فضاء بريء. لكنها حين تُقرأ بجانب التحقيقات الأمنية أو تقارير النفط، تتحول إلى استعارة مكثفة عن علاقة الفرد بالسلطة. المدرسة مؤسسة أولى للانضباط، والسلطة في النص ليست سوى امتداد لذلك الدرس المبكر. في المقابل، النفط لا يظهر كعنصر اقتصادي بارد، بل كقَدَر وجودي، كقوة تحكم العلاقات بين الداخل والخارج. بهذا يتحول النص إلى مخطوطة مُرتبكة للعالم، حيث ما يحدث في الصف يعادل ما يحدث في مكاتب السياسة. تأويل الوقائع ثنائية الوثيقة والخيال تشكل جوهر التجربة الروائية. أحيانًا يتبدى النص وكأنه مستل من أرشيف رسمي، سجلات ومحاضر. غير أن الكاتب سرعان ما يسحب القارئ إلى فضاء آخر: اللغة المجازية التي تعيد تأويل الوقائع. هذه اللعبة تمنح النص طاقته المزدوجة: من جهة، توثيقية، ومن جهة أخرى، جمالية.وكأن الرواية تقول: الحقيقة لا تكمن في الوثيقة وحدها، ولا في الخيال وحده، بل في التوتر بينهما. البنية الزمنية الرواية تنجز تفكيكاً عميقاً للاستقامة الزمنية. القفز بين زمن الطفولة وحاضر التحقيق والتاريخ السياسي ليس فوضى بل إعادة تمثيل لوعي جماعي مشدود إلى الماضي وخائف من المستقبل. هذا الانقسام الزمني يولد إحساساً بالملاحقة، وكأن الفرد يعيش زمنه الخاص تحت وطأة زمن جماعي أكبر. كل محاولة لاستعادة الذاكرة تصبح مواجهة مع السلطة، التي لا تصادر المكان فقط بل تصادر الزمن. أنمار، بصفته شخصية مشدودة بين الطفولة والموت، يتحول إلى رمز لجيل مجبر على أن يختار بين النسيان والمقاومة. الرواية لا تكتفي بأن تقدم حكاية بل تضع القارئ في قلب السؤال: ما معنى أن نروي في زمن تتنازع فيه الحقيقة مع الوهم، والذاكرة مع النسيان؟ الرواية تمنح صوراً مفتوحة، كأنها تدعونا إلى إعادة تركيبها في كل قراءة. خصوصية النص تكمن في مزجه بين الذاكرة الفردية والجماعية، بين تفاصيل البيت والمدرسة والتحقيق وبين خرائط السياسة والنفط. إنها رواية تعلن أن الفهم نفسه فعل مقاومة. حين يجمع القارئ الصور المتناثرة، فإنه لا يقوم بعمل جمالي فقط، بل بعمل سياسي وأخلاقي. هكذا، تصبح "الوطأة "شهادة فنية وتاريخية معاً، نصاً يحيا في المنطقة الملتبسة حيث لا يعود الأدب مجرد تسلية أو تسجيل، بل يصبح وسيلة لفهم الذات والجماعة في زمن معطوب. |
المشـاهدات 21 تاريخ الإضافـة 15/10/2025 رقم المحتوى 67361 |

![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |