الأحد 2025/10/26 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 17.95 مئويـة
نيوز بار
التحقيق الذي أيقظ الدولة.. أنصف عمال "الدلفري" وأجبر الحكومة على التحرك
التحقيق الذي أيقظ الدولة.. أنصف عمال "الدلفري" وأجبر الحكومة على التحرك
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب نوري حمدان
النـص :

في خضم الفوضى التي سادت سوق العمل غير المنظم في العراق، برزت فئة العاملين في خدمات التوصيل، أو ما يُعرف بـ"الدلفري"، كأحد أبرز وجوه الاقتصاد الحديث الذي وُلد من رحم الحاجة، لا من رحم القانون. هؤلاء الشباب، الذين يحملون وجوهًا متعبة وخوذًا داكنة، يجوبون المدن ليلاً ونهارًا لتلبية طلبات الآخرين، فيما يبقون هم أنفسهم خارج أي حماية قانونية أو ضمان اجتماعي. قبل أسابيع قليلة فقط، لم يكن أحد يتحدث عن حقوقهم بجدية، إلى أن جاءت التعليمات الحكومية الجديدة لتنظيم عملهم وضمان بعضٍ من حقوقهم المسلوبة. لكن الحقيقة التي لا بد من قولها بوضوح وشجاعة، أن هذه التعليمات لم تكن لتُرى النور لولا التحقيق الاستقصائي الشجاع الذي أعدّه الصحفي ميزر كمال ونشره موقع "جمار"، والذي كشف بعمق إنساني واحتراف مهني حجم المعاناة والاستغلال الذي يتعرض له آلاف العاملين في هذا القطاع.لقد ألقى التحقيق حجرًا في مياه راكدة، ليس فقط لأنه وثّق الانتهاكات، بل لأنه أعاد تعريف معنى الصحافة بوصفها سلطة رقابية قادرة على إحداث التغيير. ففي التقرير، أشار إلى أن "العاملين في خدمات التوصيل يفتقدون إلى أبسط أشكال الحماية، إذ يمكن فصلهم في أي لحظة، أو حرمانهم من أجورهم دون جهة يمكنهم اللجوء إليها". هذه الجملة وحدها، بكل بساطتها، كانت كفيلة بتلخيص مأساة جيل كامل يعيش على طرف الهامش، تحت رحمة التطبيقات الذكية التي تحدد أجورهم، وتراقب تحركاتهم، وتقرر مصيرهم بكبسة زر.لقد أثبت التحقيق أن الصحافة لا تزال قادرة على تحريك أجهزة الدولة حين تؤدي دورها بصدق. فالضجة التي أثارها التقرير دفعت الحكومة العراقية، بعد سلسلة اجتماعات، إلى إصدار تعليمات تنظيم عمل سائقي التوصيل، التي تضمنت شروطا لحماية العاملين وضمان تأمينهم الصحي والاجتماعي، ومنع استغلالهم بعقود إذعان غير عادلة. خطوة وُصفت بأنها متقدمة في سياقها، لكنها تبقى في جوهرها اعترافًا ضمنيًا بتقصير مؤسسات الدولة عن أداء واجبها طوال سنوات.إن ما فعله ميزر كمال وفريقه لا يقل عن أداء مؤسسة رقابية كاملة. لقد أدار التحقيق بحسّ إنساني ومسؤولية اجتماعية، وواجه مؤسسات وشركات حاولت التهرب من الإجابة، وكشف ثغرات قانونية عميقة سمحت بتحويل هؤلاء العمّال إلى "مواطنين من الدرجة الثانية". ولعلّ أبرز ما جاء في تقريره قوله إن "بعض شركات التوصيل تتعامل مع العاملين بوصفهم متعاقدين مؤقتين، لكنها تفرض عليهم ساعات عمل طويلة وشروطًا قاسية دون أي التزام قانوني". هذه الشهادة كانت بمثابة جرس إنذار مدوٍّ، جعل الرأي العام يرى الواقع من زاوية لم يجرؤ كثيرون على النظر منها.لكن علينا أن نكون صريحين: التعليمات الحكومية، رغم أهميتها، تبقى محدودة في أثرها إن لم تتحول إلى قانون نافذ وآلية رقابة مستمرة. فالتاريخ في العراق مليء بالتعليمات التي بقيت حبرًا على ورق. إن ضمان حقوق العاملين في هذا القطاع لا يمكن أن يعتمد فقط على قرارات آنية، بل يحتاج إلى بناء منظومة عمل عادلة تبدأ من الاعتراف بالعامل كإنسان له حق في الأمان والدخل الكريم، لا مجرد ترس في آلة الاقتصاد الرقمي.في المقابل، يمكننا النظر إلى تجارب دولية ناجحة في هذا المجال. ففي إسبانيا، على سبيل المثال، أصدرت الحكومة في عام 2021 ما عُرف بـ"قانون الدلفري" الذي فرض على شركات التوصيل الإلكترونية أن تعتبر العاملين لديها موظفين رسميين يتمتعون بحقوق الضمان الاجتماعي والإجازات المدفوعة. أما في كندا، فقد أُنشئت نقابات صغيرة تضم العاملين في تطبيقات التوصيل للدفاع عن مصالحهم والتفاوض باسمهم مع الشركات. وفي كوريا الجنوبية، ظهرت جمعيات مدنية غير حكومية تقدم الدعم القانوني للعاملين في هذا القطاع وتتابع شكاواهم أمام القضاء. كل هذه التجارب تؤكد أن حماية حقوق “جيش الدراجات النارية” تتطلب إرادة سياسية ومجتمعية حقيقية، لا مجرد إجراءات شكلية.من هنا، لا بد من الإشادة بالخطوة العراقية الأخيرة بوصفها انتصارًا للصحافة الجادة ولإصرار الصحفيين الذين ما زالوا يؤمنون بأن الكلمة يمكن أن تغيّر الواقع. لم يكن التحقيق مجرد مادة صحفية، بل كان فعلًا مدنيًا واعيًا، استند إلى الشهادة والوثيقة والميدان، وقدم نموذجًا يحتذى في كيف يمكن للصحافة أن تفتح باب الإصلاح في بلد أنهكته البيروقراطية واللامبالاة. إنّ التحية الواجبة هنا ليست فقط للكاتب، بل لكل من شاركه الهمّ والنية الصافية في أن يكون الصوت لمن لا صوت له.في المقابل، فإن على الحكومة أن تذهب أبعد من التعليمات. فالأمر لا يتوقف عند إعلان نوايا حسنة، بل يتطلب إنشاء هيئة أو قسم مختص داخل وزارة العمل والشؤون الاجتماعية يتابع أوضاع العاملين في هذا القطاع، ويستقبل شكاواهم، ويضمن تنفيذ التعليمات. كما يجب إشراك منظمات المجتمع المدني في مراقبة التطبيق العملي، حتى لا يتحول القرار إلى مجرد خبر في نشرة رسمية. إن حق هؤلاء العمال في الأجر العادل، والتأمين، والاحترام، هو حق إنساني لا يمكن التنازل عنه، ولا يجب أن يكون رهينًا لرحمة الشركات أو مزاج المسؤولين.لقد أثبت هذا الملف أن الصحافة الحرة قادرة على أن تضع العدالة على طاولة النقاش العام. وما حدث اليوم في العراق هو نموذج يُدرّس في كيف يمكن للتحقيق الاستقصائي أن يتحول إلى قوة دافعة للتغيير. فبفضل الجهد الذي بذله ميز كمال وفريقه، تحركت عجلة الدولة ببطء لكنها تحركت، واستعادت الكلمة معناها، والضمير دوره.وفي النهاية، فإن ما نحتاجه اليوم ليس فقط الاحتفاء بصدور التعليمات، بل الدفاع المستمر عن تطبيقها، وضمان ألا تُنسى عندما تخفت الأضواء الإعلامية. إن المعركة الحقيقية ليست في إصدار القرارات، بل في حماية الإنسان العامل من أن يُختزل إلى رقم في نظام رقمي بارد. هؤلاء الشباب الذين يقطعون الشوارع ليلاً من أجل لقمة عيشهم، يستحقون أكثر من الشكر، يستحقون العدالة. وإن كانت الحكومة قد خطت خطوة في هذا الاتجاه، فإن الفضل الأكبر يعود إلى من جعلها ترى ما لم تكن تراه.

المشـاهدات 32   تاريخ الإضافـة 25/10/2025   رقم المحتوى 67664
أضف تقييـم