| النـص :
قالوا في الحكمة: إن في كل مأساةٍ دروسًا، وفي كل فاجعةٍ مرآةً تُظهر وجوهنا الحقيقية.وحين غرق الشاب حسين، لم يسقط جسدًا فحسب، بل سقطت معه كل الفوارق التي نرسمها بيننا: المذهب، القومية، والمنطقة. وسرعان ما طفت على وجه الماء حقيقةٌ واحدة: أن العراقيين، مهما اختلفت أسماؤهم ولهجاتهم، يتوحدون في الحزن كما يتوحد الدم في الجسد.لم تكن حادثة غرق حسين مجرّد مأساة شابٍ خرج من بيته بحثًا عن لقمة العيش فعاد إليه خبرًا مؤلمًا، بل كانت مرآةً للمجتمع العراقي بأكمله.في ذلك النهر، لم يبتلع الماء شابًا من السماوة فقط، بل ابتلع معه صرخات آلاف الشباب الغارقين في أزمات البطالة والخذلان وفقدان الأمل.لكن المفارقة أن الماء الذي أخذ حسين، جمع حوله العراقيين من كل مذهبٍ وقومية؛ فكانت الضفتان — شيعةً وسنّةً وكردًا — مجلس عزاءٍ واحد، ونهر دجلة تحوّل من مجرى ماءٍ إلى مجرى دموع.إنّ حسينًا لم يغرق وحده، بل كشف غرقًا أكبر نعيشه جميعًا: غرقٌ في الخلاف، في الانقسام، في نسيان إنسانيتنا المشتركة.وها نحن نراه في السياسة والطائفية والإعلام، غرقًا معنويًا يجعلنا نغفل عن أبسط الحقائق: أن من يموت في السماوة يبكيه أربيل، ومن يغيب في الموصل يدعو له الجنوب.لقد علّمتنا حادثة حسين أن الهوية العراقية لا تُحدّد بالدم، بل بالدمعة؛ ولا تُعرف بالانتماء الطائفي، بل بالانتماء الإنساني.حين يمدّ الغواص يده ليبحث عن جسدٍ مفقود، لا يسأله: من أي طائفة أنت؟ بل يسأله فقط: أين أنت يا ابن العراق؟وحين يجتمع الناس على ضفتي دجلة للدعاء والبكاء، لا يعرف أحدهم مذهب الآخر، لأن الدموع تتكلم لغةً واحدة لا تُترجم.لقد غرق حسين، لكنه أنقذنا من غرقٍ أكبر.ذكّرنا بأن الوحدة لا تُكتب في الدساتير، بل تُكتب في المآتم، في لحظات الفقد التي ننسى فيها كل ما يفرّقنا.وربّ مشهد حزنٍ بسيط أعاد إلى هذا الوطن ما لم تستطع أن تعيده كل الخطب والمؤتمرات: الإحساس بأننا شعبٌ واحد.رحم الله حسينًا (وكأنه يستصرخ ويطالب عثمان العبيدي لنجدته) الذي علّمنا أن الغرق لا يكون دائمًا في الماء، بل أحيانًا في القسوة، في اللامبالاة، في النسيان.ولعلّ وفاء الناس له كان طوق نجاةٍ رمزيًّا ألقى به العراق إلى نفسه ليقول: “ما دمنا نبكي واحدًا منا، فالعراق ما زال حيًّا.
|