الأحد 2025/10/26 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 17.95 مئويـة
نيوز بار
سعد محمّد القابض على جمر الشعر
سعد محمّد القابض على جمر الشعر
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

ناصر أبو عون

على طاولة في مقهى تحرس أبوابه المزجّجة بالحنين ابتسامةُ فتاةٍ ينسدل الشِّعر(بكسر الشين المضعّفة المكسورة) المنثور على كتفيها أقمارًا تنزّلت من سماء القصيدة؛ لتلتقط لؤلؤ التفاعيل المُشتهاة من على شفتيها، بينما الطُّهاة (المُستتركون) لا يجيدون اصطياد رائحة (السمچ المسگوف العراقيّ) الذي تلظّى على حطب القوافي.. هناك تجاورت المقاعد، وسقطت نجمات من موسيقى تتراقص على إيقاعات مقام بغداديّ في كؤوس الشايّ المخضّب بالضحكات، وكان سعد محمد (الموصليّ) أصالةً وبلاغةً يجاورني، ومن قبل جمعنا الفضاء الأزرق دون أي حوار؟ٍ يُذْكَر.

لكنّ قراءة واعية لإنتاج الشاعر العراقي سعد محمد تؤكد أنه يبدع شعرا وسردًّا ويملك ناصية رؤية إبداعيّة واعية تنزع إلى التجديد على مستوى المضمون، والشكل الفني في آن واحد؛ وفي حركة متوازية تتجه بالنص إلى ترسيخ القيم الخلقية النبيلة، والمتوارثة في منظومتها الصافية، والمتحللة من شوائب التقليد، ودون الولوج إلى مستنقعات الحداثة الشعرية التي انحرفت بالشعر العربي عن غايته الكبرى، وجرفت في طريقها كافة القيم النبيلة لتطفو على سطح النهر نفايات لغوية مغرقة في (الإيروتيكية)، وما يعرف بقصيدة (البورنو)، و(الاستربتيز) لتصبح الحياة الثقافية العربية في عصر هذه القصيدة (كازينو) كبير، أو قل بلاتوه سينمائي يعرض ترهات وصفحات سوَّدها أنصاف المتعلمين فتطاولت أقزام، وسقطت في غيابة الجُب أخلاقيات الكتابة الشعرية. ويأتي هذا المقطع الشعريّ ليؤكد أن سعد محمد يمتطي حصان الشعر ممسكًا بسيف الالتزام الخُلقي، فيصف في غير مجون، ويشفّ في غير جنون:[تُطلُّ، كأنَّ الفجرَ طلَّ بخصرِها/ يُطلُّ ربيعُ العمرِ حبّاً بعطرِها/ وإن ضحكتْ، مرّ النهارُ بدهشةٍ/ يسافرُ في روحي هوى تحتَ أمرِها/ لها لغةٌ ليست تُقالُ بلفظةٍ/ يجوزُ لها ما لا يجوزُ لغيرِها]

ولولا ثلة من الشعراء الشباب من أمثال سعد محمد القابضين على جمر اللغة، والمتمسكين بحبل الله، والعاقدين قلوبهم بعروة خلقية وثقى لتفلَّتت الأخلاق من عقال الشعر العربيّ لتصبح من ذكريات التاريخ، غير أن الرابضين من أهل (ثغور الشّعر) في خندق اللغة والقيم الإسلامية، ويدهم على زناد العروبة ومنهم (سعد محمد) والرافضين لتّرَّهات الحداثة المزيفة ودكاكينها المستوردة، وغيرهم في جميع أرجاء المعمورة، والذين يسعون لتذكرة الغافلين بدور الشعر العربي في المقاومة والمدججين بالكلمات وأصابعهم على زناد الخليل الفراهيديّ، والواقفين على حدود اللغة والأوطان وفي أيديهم بنادق من موسيقى، وعلى رؤوسهم خوذات من أفكار مُحَصَّنَة ضد جراثيم الحداثة الزائفة غير المُبتغاة، وعيونهم مفتحة في وجوه الأعداء المنتظرين إغفاءة من شعر للانقضاض على قداسة القصيدة، لتحطيم مرجعيتها التراثية، وتشويه ملامحها العربية والإنسانية؛ لإلغاء وجودها تمهيدا لاستعمار العقول، وسحق القلوب.

وإبداع سعد محمد بمثابة خارطة لغوية تتوزّع عليها نقاط حراسة، ومربعات فنية متداخلة، فهو لم (يتأندس) مثل مجاذيب (أدونيس)، ولم يتعّمد سلخ القصيدة من لحمها العربيّ، ولا شرعنة المسوخ النثريّة وشعرنتها، ووضعها في قوالب فنية جامدة من الغموض، بل ينصهر في عمق التجربة، ويطوِّع الاتجاه الشعريّ، ويتأبّى أن يكون مِطْواعا له.. ويمكنك عزيزي القاريء أن تطالع هذه المقطوعة الشعرية لتكتشف بساطة سعد محمد في كتاباته المنطوية على معانٍ كبرى: [عن الإرباكِ عن صخبِ الليالي/ وعن قلقي وعن سرِّ اشتعالي/ وعن قلبي إذا ما رفَّ يومًا/ ليأخذَني إلى أقصى الخيالِ/ إلى امرأةٍ كذاكرتي، كصبري/ كأسئلتي، كتأويلِ الجَمالِ/ هي امرأةٌ توزّعني ظنونًا/ وأحلامًا تؤولُ إلى زوالِ].

وفي الأخير يمكننا القول: إن قاريء شعر سعد محمد سيجد متعة خاطفة، ستأخذه شيئًا فشيئًا نحو تخوم صورة شعرية تتجسد في منظومة بصريّة على سطح قصيدة حديثة وحداثويّة في آنٍ تنطلق من خلفية تراثيّة أصيلة؛ ومرد ذلك يعود إلى تأثر برصيد العراق الشعريّ قديما وحديثا والذي ينهل منه في غير تقليد، ويتكيء على مفهوم بصريّ يُشكّل معمار القصيدة كبنية فنية كليّة.. ونجد مثال ذلك في هذا النموذج..[مدايَ المغرياتُ وأنت دائي/ وأنت الأُفقُ إن بخلَتْ سمائي/ وكلُّ الأغنياتِ إليك وحيٌ/ وكلُّ الشعرِ يقدحُ من حيائي/ وعزفُ النايِ يسعرُ حينَ تبدو/ فذا قَصَبٌ مكوًى بالنساءِ/ يَعمدُ منك بحّتَهُ ويمضي/ ليظفرَ باحتمالاتِ البقاءِ].

المشـاهدات 23   تاريخ الإضافـة 25/10/2025   رقم المحتوى 67669
أضف تقييـم