الورق لا يصنع دولة
![]() |
| الورق لا يصنع دولة |
|
كتاب الدستور |
أضيف بواسـطة addustor |
الكاتب رياض الفرطوسي |
| النـص :
في العالم العربي نكتب كثيراً. نصوغ المراسيم والبيانات والعهود كما لو أن الورق بذاته يخلق واقعاً، أو أن الحبر قادر على أن يحل محل القوة. نؤمن بالكلمة حتى وهي عزلاء، ونظن أن الخطاب إذا صيغ جيداً كفيلٌ بأن يقلب الموازين. لكن الحقيقة أقسى من ذلك: لا يصنع التاريخ إلا من يملك أدوات تغييره. الورق لا يصنع دولة.
منذ قرون ونحن نتناوب على كتابة مشاريع النهضة والإصلاح والحرية، بينما الواقع يمضي في طريقٍ آخر، تُديره القوة لا النوايا. التاريخ لا يسجّل الأصوات المرتفعة، بل الأيادي التي تحرّك الأرض. من يملك القرار، ومن يقدر أن يفرضه، هو وحده من يُحدّد شكل الخريطة وحدود الكلام.
ماركس كان يرى أن تفسير العالم لا يكفي، بل تغييره هو الغاية. وهيغل رأى في الدولة تجسيداً لإرادة القوة والعقل معاً. أما إنجلز ففهم السياسة باعتبارها تعبيراً مكثّفاً عن الاقتصاد، عن البنية التي تمنح القوة لمن يملكها. هذه ليست نظريات عتيقة، بل قوانين واقعٍ ما زالت تحكم حتى اليوم: لا شرعية من دون قدرة، ولا سيادة من دون قوة تحرسها.
هيكل قالها بوضوح: مجتمع الدول هو مجتمع صراع. لا مكان فيه للضعفاء، ولا اعتبار فيه لبلاغة الخطاب. العالم لا يستمع إلى الخطب، بل إلى من يملك وسائل التنفيذ. إن القانون الدولي نفسه ليس سوى انعكاسٍ لموازين القوة، ومن لا يملك أوراق القوة يصبح هو الورقة ذاتها، يُستعمل حيناً ويُرمى حين ينتفي الغرض منه.
في منطقتنا، تحوّلت السلطة أحياناً إلى طقوسٍ شكلية. تُكتب المراسيم بأناقة، تُذاع البيانات ببلاغة، لكن خلفها فراغٌ من الإرادة أو ضعفٌ في القدرة على فرض التنفيذ. الدولة لا تُقاس بما تعلن، بل بما تنجز. لا بما تُوقّع عليه، بل بما تفرض احترامه. ومن دون قوةٍ حقيقية، تظل السيادة شعاراً معلقاً في الهواء.
المشكلة ليست في اللغة، بل في الإيمان الزائف بأن اللغة تكفي. الكلمة العظيمة لا تُثمر إن لم تتكئ على واقعٍ يحميها. والشرعية لا تدوم إن لم تستند إلى ركنٍ صلب من القوة، الاقتصادية والعسكرية والسياسية. فالتاريخ لا يحترم الورق مهما كان مُذهّباً، بل يحترم الأفعال حين تتحول إلى حقائق لا يمكن تجاهلها.
لقد تعبنا من الإنشاء الذي يُسكّن وعينا ولا يغيّر شيئاً. من البيانات التي تُصدرها الأنظمة لتثبت وجودها، بينما وجودها ذاته هشّ. من المثقفين الذين يكتفون بالتفسير، والسياسيين الذين يكتفون بالتبرير. ما ينقصنا ليس مزيداً من الكلام، بل القدرة على ترجمة ما نقوله إلى فعلٍ يُحدث الأثر.
العالم لا ينتظرنا. المنطقة لا تُدار بالنوايا. ومن لا يملك القوة على الأرض لن يملك مكاناً على الطاولة. الورق لا يصنع دولة، لكنه يُسجّل قيامها حين تنهض بالفعل. والتاريخ لا يُكتب بالحبر، بل بخطواتٍ حاسمةٍ تُغيّر مسار الطريق. |
| المشـاهدات 40 تاريخ الإضافـة 30/10/2025 رقم المحتوى 67808 |
توقيـت بغداد









