معاول الجهل تهدم رموز الوعي
![]() |
| معاول الجهل تهدم رموز الوعي |
|
كتاب الدستور |
أضيف بواسـطة addustor |
الكاتب د. حسين الانصاري |
| النـص :
يبدو أن الحجارة في بلادي أكثر حظا من العقول، إذ تُشيد حينا لتهدم بعد حين، في طقس غريب من العبث الثقافي الذي لا يعرف إن كان يحتفي بالرموز أم ينتقم منها. ويشهد العراق هذا البلد العريق الذي أنجب كبار المفكرين والعلماء والفنانين فصلاً جديدا من مسرحية ( إدارة الثقافة بالمعاول ) حيث امتدت الأيادي إلى تمثال العالم اللغوي مصطفى جواد، ذلك الرجل الذي أنار دروب اللغة، فأطفأوا نوره بجهل مطبق وذرائع مضحكة أكثر من كونها مقنعة. حين ارادو تبرير فعلتهم ،فقالوا إنهم لم يستطيعوا نقل التمثال بطريقة صحيحة من قبل المهندس المسؤول ومن معه وقد أرادوا نقل التمثال إلى مكان آخر يليق بمقامه! يا للعجب، كأنهم كانوا يجهزون لرحلة سياحية، لا لجريمة ثقافية. ألم يكن الأجدر أن تُنقل مثل هذه العقول التي اتخذت هذا القرار بدل التمثال؟! فالعقول التي لا تميّز بين القيمة والمعول، بين الرمز والحجر، لا تستحق أن تؤتمن على ذاكرة أمة وتاريخ شعب. إن تحطيم تمثال مصطفى جواد ليس فعلا عابرا، بل هو إسقاط رمزي للمعرفة ذاتها. في بلاد كانت مهد الكتابة والعلم والقوانين ، أهكذا يسحق الرمز الذي حمل عبء الكلمة وحرس اللغة من التلاشي . إنه مشهد سريالي يصلح لأن يُدرّس في مادة (فن الهدم الثقافي المعاصر )حيث الجهل يرتدي عباءة القرار الرسمي، وتدار الثقافة بعقلية المقاول لا المفكر العارف . ولكن في المقابل دعونا ننظر إلى الأمم المتحضرة التي تفهم معنى الرمز وتقدس التأريخ والذاكرة. ففي ألمانيا لا أحد يجرؤ أن يلمس تمثال غوته، ذاك الشاعر الذي صار ضميراً وطنيا، فتماثيله ترمم وتغسل وتزين بالورود. وتطبع له الكتب بمختلف اللغات ومتحفه يزار كل يوم ، وفي فرنسا، ما زال تمثال فيكتور هوغو الذي أبدعه الشهير رودان شامخا في مدينة بيزانسون مسقط رأسه، يفخرون به لأنهم يعرفون أن الرجل الذي كتب البؤساء رفع وعي الإنسانية والإنسان. أما في روسيا، فيعامل تولستوي ودوستويفسكي وغوغول وغيرهم من المبدعين كما يتعامل قديسيها، وتُدرس فلسفتهم في المدارس بوصفها ميراثا قوميا عظيما. وفي إسبانيا، يُقام سنويا مهرجان باسم لوركا، الشاعر الذي قُتل برصاصة الفاشية، لكن صوته بقي يقظا في الذاكرة، وتماثيله في الميادين تذكر بأن الشعر لا يُقتل والابداع لا يموت بينما نحن، في بلد الحضارات التي تناست نهدم تمثال عالم لغوي علمنا أن نقول (قل ولا تقل ) أليست المفارقة ساخرة إلى حد الألم؟ لقد صار شعارنا الجديد (اهدم ولا تفكر) إن الأمم لا تقاس بعدد الأبراج ولا بعدد عمارات الكونكريت ، بل بمدى احترامها لعقولها ومبدعيها. ومن لا يعرف كيف يحفظ رموزه، لا يحق له أن يدعي الانتماء إلى حضارة او وطن. فالتماثيل ليست حجارة جامدة، بل ذاكرة جماعية متجسدة، وهدمها يعني محو صفحة من تاريخ الوعي. وان ما حدث في ساحة مدخل مدينة الخالص في ديالى يعد جريمة ثقافية مكتملة الأركان، لا تبررها الأعذار الواهية، ولا تغسل باعتذار رسمي. فحين تُهدم الرموز، يُفتح الباب واسعا أمام أنصاف المتعلمين ليكتبوا تاريخا مزيفا، يعلو فيه صوت الجهل وتخرس فيه لغة العقل. لقد كان الأجدر بوزارة الثقافة والمحافظة وبلدية الخالص أن تجعل من تمثال مصطفى جواد مزارا معرفيا ، تقام عنده المؤتمرات وتعقد الندوات، وتُوزع باسمه الجوائز، وتُغرس حوله شتلات اللغة التي أحبها. لكننا بدلا من ذلك، نحتفي بالخراب، ونُقيم للفراغ مهرجانا وللجهل منصات ،وهكذا يبقى الفرق بيننا وبين الأمم الحيّة فرقا في الوعي لا في الإمكانات فهناك تُقام التماثيل لتذكر الأجيال بوهج العقل، وهنا، تُهدم التماثيل كي لا تذكر أحدًا بما فقدناه من عقل. ولعل أكثر ما يوجع أن من هدم تمثال مصطفى جواد لم يدرك أنه بفعله هذا إنما أكد الحاجة إلى مصطفى جواد آخر يعلّمهم من جديد الفرق بين الجمال والقبح، بين الجهل والمعرفة ، بين من يبني ومن يهدم. |
| المشـاهدات 464 تاريخ الإضافـة 01/11/2025 رقم المحتوى 67842 |
توقيـت بغداد









